عن الفتنة بين العلمانيين والمحافظين في قضية الإرث ..!
ما كان ينبغي أن يكون التعامل مع توصية المجلس الوطني لحقوق الإنسان بهذا الانفعال الذي يعكس قوة مفعول مضمون التوصية التي تدعو إلى البحث والاجتهاد الفقهي حول قضية الإرث ونصيب المرأة منه، لأن التوصية لم ترق إلى التشكيك في النص القرآني القطعي الثبوت، ولم تطلب إلغاؤه أو الفتوى الاجتهادية حوله، وما كان على الذراع الدعوي لحزب العدالة والتنمية ولبعض صقور هذا الحزب أن يخرجوا بهذه البيانات المضادة .. فأعضاء المجلس الوطني لحقوق الإنسان ليسوا كراكيز الدولة العميقة، ولا تملك حركة التوحيد والإصلاح وغيرها الوصاية على المسلمين في حرية التفكير والتعبير في القضايا الدينية، ولا مجال لخلط السياسة بالدين في هذا الموضوع الخلافي، كما أنه لا حرية إباحية مستفزة للمشاعر والعقول لمن يسعون إلى المس بالاستقرار الاجتماعي وزرع بذور الفتنة بين المغاربة في هذه الفترة التي تشهد بحث الإرهابيين عن مبررات الاشتغال ضد خصومهم.
قد يكون وراء الفتنة الجديدة بين العلمانيين والمحافظين بهذا الوطن ما يبررها من خلال توصية المجلس الوطني لحقوق الإنسان حول المناصفة في الإرث، لكن أن تدفع بالحزب الذي يقود الحكومة إلى إصدار بيان يدين فيه أصحاب التوصية، فهذا ما لا يمكن القبول به إلا إذا كانت هناك أطراف من خارجهما تبحث عن ما يساعد على ملأ الفراغ، وخلق مواضيع للنقاش والحوار المجتمعي حول القضايا المجتمعية الحارقة، وحتى هذا المبرر لا يمكن الاستئناس به في فهم الأغراض والأهداف من خلف شروط مثل هذه الحوارات المجتمعية التي لا تسمن ولا تغني، ما دامت توجد نصوص قطعية حولها تعدم مشروعية أي نقاش حتى وإن كانت له راهنية في الفترة المعاصرة.
يلعن اللـه من يوقظ الفتن بين أبناء الأمة حول القضايا الشائكة الفقهية التي لا يستحيل فيها تجاوز النصوص قطعية الثبوت، وحتى وإن كان الاندفاع والانخراط فيها مشروعا كهذه القضية التي يستنفر فيها المحافظون والعلمانيون قواعدهم لاختبار أسلحتهم ونفوذهم بين العامة .. فتصيد صقور المحافظين المعركة وتوعدهم لخصومهم العلمانيين لا يوقف أسباب الفتنة، بل يؤجهها ويفتح لها فضاءات أخرى، وحتى الذين يطرحون قضية الإرث دفاعا عن حقوق المرأة، وتحسين أوضاعها، يدركون الخصاص في الاجتهاد بين الأئمة والذاهب حولها، ويراهنون على تراجع جوانب القوة لدى خصومهم المحافظين، وهذا ما لا يمكن أن يحدث حتى وإن انتهى الخلاف بين العلمانيين والمحافظين إلى الاقتتال الدموي الذي لا يخدم الطرفين، وهذا ما يشير إلى أن التغيير الذي يدعو إليه المحافظون لن يحالفهم النجاح بواسطته حتى وإن دعمته العامة في وضعها الحالي.
إن الذين خلقوا مشروعية هذا الحوار حول المُسَلّمات التي لا يجب أن تكون موضوعا للحوار، يريدون توفير وقود الفتنة النائمة قصد تصيد أبطالها ورموزها ومناضليها، سواء من التيار العلماني أو المحافظ، وفي نظرنا المتواضع في النقابة المستقلة للصحافيين المغاربة، لا حق للتيارين في الحوار أو في افتعاله حول نصوص دينية قطعية الثبوت، ولا أحد في المجتمع يطعن في شرعيتها، حتى وإن كان من يطرحها يريد توظيفها لمناقشة قضايا مجتمعية أخرى لها علاقة بمنظومة الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية المنصوص عليها في الدستور في أفق تحريك الاجتهاد حولها لتمكين المرأة من المناصفة الحقيقة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
طبعا، صقور التيار العلماني والمحافظ يتوفرون على الجاهزية لمواجهة خصومهم في الطرف الآخر باستمرار، ومستعدون لجر المجتمع إلى هذه المعارك الجانبية التي لا تخدم تطلعاته في الديمقراطية والتحرر والتنمية والتطور، وخصوصا في مثل هذه المواضيع المرتبطة بالعقل الجمعي السائد المجسد للهوية والخصوصية الثقافية والدينية والحضارية، رغم وجود هذا الحقل في يد إمارة المؤمنين التي تملك وحدها الحق في تدبير النقاش والحوار والاجتهاد، لكن أن يخرج الحزب الذي يقود الحكومة ليعبر عن قناعته حول الموضوع، فهذا لا يوقف أسباب الصراع والخلاف مع العلمانيين، بل يطرح إشكالية ازدواجية المعايير التي لا حق للحزب الحاكم فيها، بالنظر إلى موقعه في تدبير الشأن العام فقط، وليس من حقه دستوريا الخوض في مثل هذه الموضوعات التي تتجاوزه.
إننا في النقابة المستقلة للصحافيين المغاربة، ننتظر وقف الصقور لهذه المعركة حول هذا الموضوع، والانصراف إلى البحث في القضايا ذات الاهتمام المجتمعي المرتبط بالمشاكل التي يواجهها المجتمع في القطاعات التي لها علاقة بحياته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ورفع مستوى النقاش حولها مع الأطراف المعنية بها في أفق الاستجابة لمطالب المجتمع فيها، واحتواء أسباب الانجرار إلى الخلافات حول الثوابت المجتمعية التي يجب حماية وقارها الديني والدستوري.