ماذا تقول المقابر ..؟ !
علي دنيف حسن
اللجوء إلى الله تعالى في كل شيء، وضرورة التسامح مع الآخرين، والابتعاد عن الجشع والطمع، هي أبرز المشاعر التي تتأجج في نفس من يزور المقابر، لكن تلك المشاعر سرعان ما تخبو وتنطفئ بعد عدة ساعات أو أيام أو أسابيع تبعا لحالة الفرد النفسية وطبيعة الوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه، ونتيجة للأوضاع المتقلبة في الكثير من الأحيان.
يحدث الشيء نفسه في مجالس العزاء، وعند زيارة العتبات المقدسة، وفي مواقف شبيهة كثيرة، ولكن الحال يبقى كما هو، إذ تتراجع العظة والاعتبار ويعود الإنسان إلى طمعه وجشعه ضاربا بعرض الحائط تلك اللحظات من صحوة الذات في وجودها الإنساني.
الشيء نفسه يحدث عندما يزور أحدنا قسم الطوارئ في أي مستشفى عام لأي سبب كان، فحين يرى ما حدث للكثيرين نتيجة حوادث مؤسفة، فإنه يحمد الله ويثني عليه ويعد السلامة والعافية خير ما أنعم الله به عليه، ويتيقن أن ما تحدثه نفسه به، وما تلج به روحه من دوافع استحواذية، هي ليست أكثر من رغبات وشهوات مؤقتة وزائلة، عليه عدم الالتفات إليها، وتجنب منحها المزيد من الاهتمام.
لكن، كل تلك الأفكار لا تلبث في القلب والروح إلا محض ساعة ثم تنقشع مثل سحابة صيف هائمة تدفعها الرياح بسهولة ويسر.
في عيادة طبيب مختص بأمراض الجهاز الهضمي رأى صديقي العجب العجاب، فقد شاهد مرضى يعانون أشد المعاناة، لدرجة أن الطبيب نصح بعضهم باستئصال المرارة أو بضرورة إجراء عملية جراحية كبرى ودقيقة في هذا الجزء أو ذاك.
ضاقت الدنيا في عين صديقي، بحسب قوله، وظن أن الآلام التي يعاني منها ربما ناتجة عن تلف أو انهيار عضوي ما.
وفي الحال تذكر أطفاله، ووالديه، وأصدقائه، وشعر بأنه يكاد يقترب من أيامه الأخيرة، فازداد حزنا وكمدا، وقلق ما شاء له أن يقلق في مثل هذا الحال.
أثبتت فحوصات السونار سلامة صديقي من أي ورم، وأعطي أدوية لعلاج التهاب طفيف في المرارة، فكانت فرحته لا توصف عندما أخبره الطبيب بذلك، فقد أخذ ينظر للدنيا بمنظار جديد، وعاد إلى منزله مشيا على الإقدام ليمتع عينيه بفوضى وصخب الحياة، وكأنه عائد من الموت توا.
وفي الطريق، اتخذ صديقي مع نفسه عدة قرارات تاريخية من بينها: أن يترك التدخين بلا رجعة، وأن يواصل رياضة المشي لعدة كيلومترات يوميا، وأن يتجنب صفار البيض واللحوم الحمراء، وأن يقلل من الملح والسكر في طعامه، وألا يحتسي المشروبات الغازية إلا في مناسبات نادرة ومتباعدة، وأن ينام مبكرا، وألا يستمع إلى نشرات الأخبار، ولكنه لم ينفذ أيا من قراراته تلك.