أمام فتوحات العقل الإنساني الغربي، التي شملت جميع جوانب الحياة المعاصرة بما فيها توظيفه للعقل الآلي، الذي خلقه لمساعدته في تسهيل شروط حياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، لا يزال عقلنا العربي معطوبا بآفة العجز على ممارسة وظائفه البيولوجية والفسيولوجية من خلال الحصار المضروب عليه من الذين يتحكمون في تأهيله السوسيواقتصادي وسياسي وثقافي، الذين يخافون من انفلاته من حزمة السلاسل الموضوعة في طريقه، حتى لا يتمكن من استيعاب واستخدام الفكر النقدي والعلمي، مما يتمكن معه من الانقلاب على عصور الظلام والتخلف التي مر منها، والتي لا يزال يواجه بقاياها في الوقت الحالي.
إن من عملوا على تكريس عطالة هذا العقل العربي في فترات الاستبداد والانحطاط، لا يعرفون أنهم حرموا هذا العقل من ممارسة وظائفه الطبيعية، ورسخوا دونيته التي لا يبررها ما أصبح عليه من جمود وقصور وعقم وتراجع خلال الفترات التي نهض فيها العقل الغربي، الذي كان قبل عصر النهضة يعيش في شروط الشلل والتخلف، التي أنقذه منها العقل العربي بما كان يمتلكه من معرفة وخبرة وقيمة حضارية متقدمة، التي تلاشت عناصر قوتها في الصراع على السلطة والثروة بين القوى التي خلفتها فترات ضعف الخلافات الإسلامية الراشدة والأموية والعباسية والعثمانية، وغذتها محاولات الحضارات الشرقية والغربية للهيمنة على هذا العقل العربي، وتعطيله لمنعه من المنافسة واستمرار الريادة التي كان عليها في عدة مجالات، والتي شجع عليها مضمون المرجعية الإسلامية الثوري الإنساني والمشرق التي لم يتخلف أعداؤها على محاصرته وفرض العوائق أمامه حتى اليوم، بما فيها منظور الديانات الأخرى الذين كانوا يبحثون عن ما يعرقل العقل العربي والتسامح والتحرر، الذي جاء به الإسلام للعرب وغيرهم، حيث تمكن العقل العربي في شبه الجزيرة من الانطلاق والتطور رغم طبيعة هذه الأرض الصحراوية، ومنافسة أرقى الحضارات المجاورة الرومانية واليونانية والفارسية عبر التعامل الحضاري الذي سمحت به تجارة القوافل، التي مكنت من ازدهار الاقتصاد العربي التي نصح به الدين الإسلامي في نصوص القرآن والسنة النبوية، الذي جسد بداية نشأة النظام رأسمالي إتجاري جديد في المنطقة أغنى التجارة العالمية بواسطة تجارة القوافل، التي لعبت دور الوسيط بين حضارتي فارس والرومان، التي أغنت المشروع الحضاري العربي الإسلامي بعد تأسيس الدولة في المدينة المنورة.
العقل العربي إذن، معطل على القيام بوظائفه بصورة طبيعية، كما هي حركة وأداء العقل في التجمعات السكانية الأكثر تقدما وتحضرا في عالمنا المعاصر، وهي عطالة مفروضة عليه من القوى المجتمعية التي تخشى حريته وتمرده وتحركه النقدي والإبداعي، كما يعيش عليها بقية العقول في المجتمعات التي وعت بدوره المحوري الأساسي في الأوضاع التي أصبحت عليها والمختلفة جذريا مع مراحل تطورها التاريخي السابقة، ولا يتوقع أن يتجاوز هذه العطالة المتعددة التي يواجهها من مفعول القبضة الحديدية التي يخضع لها في ظل هذه الإيديولوجية المحافظة، التي تخدم المافيات الانتفاعية المسيطرة عليه، والتي لا تؤمن بما يجب أن يكون عليه من تطور ورقي، كما يطرح ذلك المثقفون الطليعيون من أبنائه الذين يقفون في خندق المطالبة بتعميق مجالات تحرره السياسي والثقافي حتى يتمكن هذا العقل من الانطلاق دون تعتر أو خوف أو تردد.
الإشكال الخطير الذي يجب الانتباه إليه، أن مجتمع المعرفة أصبح يفرض قوانينه وقيمه على المجتمعات التي تستخدم منتوجات ثورته التقنية التي تم توظيفها في جميع المجالات، حيث تحول العقل البشري في ظل هذه الثورة التقنية المتقدمة إلى مجرد مسكون ومهووس بما يتم التوصل إليه في هذه التكنولوجيا المتقدمة التي أصبح يثق بها ويكيف وجوده عليها في كل مجالات حياته اليومية، ووصلت في بعض الدول إلى الاعتماد عليه في كل مجالات الصحة والاقتصاد والتعليم، ناهيك عن استخدامه في المجالات الأمنية والعسكرية والعلمية، فأين عقلنا العربي من مجتمع المعرفة الذي أصبح عنوان القوة والحضور في هذه الفترة من التاريخ ..؟ وهل سيظل في عطالته إلى إشعار آخر في الوقت الذي يعرف فيه مجتمع المعرفة حركة تحول وتطور سريع لا يعرف إلى أين تقود العقل الإنساني ..؟