الربيع الثقافي في دواليب الدولة الصنمية
سناء الحافي
إن ما يدور في الساحة العربية من موجات الربيع العربي والتي تصيبنا بحالات من الحنق و الاختناق، جعلني أتساءل عن دور المثقفين و دور وزارات الثقافة، التي تعيش حالة من البرود واللاوعي، مما يعيشه المواطن العربي من إخفاقات بسبب الثورات، التي كان يتأمل فيها خيرا وحرية وعدالة .. وقد كاد أن يكون الكاتب والمفكر العربي من عائلة العرائس المتحرّكة الخالية من السحر، وكذلك من الحكمة والحياة .. فالمثقّف اليساري تيبّس على عتبات الفقر والبطالة واللغة المراوغة، واليميني كان يعاني من فقر دم تاريخي وهو منهمك في إصلاح وتزويق ديكور سجون الحاكم المستبد .. وعلى جنبات هؤلاء وأولئك، يتبادل أعداء التسامح والفضيلة والانفتاح والثقافة تهما خالية من الذكاء، ومولّدة للحرب الثقافية الأهلية .. لكن، سرعان ما تبددت الصورة العائمة وتمّ نبذ الحدث والحراك السياسي والثقافي الذي يدل على خراب الذمم وفساد الذائقة، والخلط بين الغث والسمين، وتبادل المنافع بين أصحاب القامات القصيرة. .. وهو إن دلّ، فإنما يدل على عقم في حياتنا الثقافية وحالة انسداد حضاري ترجّع صدى الواقع السياسي الآسن الذي يعيشه العرب المعاصرون .. ولن ينفع مع هذا الواقع علاج إذا لم ينبثق ربيع عربي ثقافي، إعلامي، يعيد وضع الأمور في نصابها، ويقود إلى جدل واسع النطاق حول المنجز الثقافي العربي خلال الأعوام المائة السابقة، ويثير الجدل بشأن الأنواع الأدبية والمنجز الفكري والأكاديمي والإعلامي للعرب، حتى يتبين لنا الخيط الأبيض من الأسود، ونكون قادرين على تحديد الوجهة الحضارية، والثقافية والسياسية والتعليمية والاجتماعية، التي يمكن أن تتخذها المجتمعات العربية .. لكن ذلك، لن يكون ممكنا دون إيجاد بيئة حوارية حرة، غنية بالأسئلة، مفتوحة على الآفاق، ليس فيها محرمات ومجاملات، أو مداهنات .. كما أنه لن يكون ممكنا دون السماح بالنقد العنيف للمنجز الكتابي أو الفني، أو الممارسة الثقافية، لكي نستطيع وضع النقاط على الحروف .. فحياتنا الثقافية ركدت وأسنت، وصار من الضروري هز الراكد فيها وطرح أسئلة قاسية بشأنها، علّنا نجد أجوبة لحاضرنا الشاحب المفتوح على المجهول، حيث أنّ ربيع الثورات شكل من أشكال النتاج الثقافي، أوجد كتابات عبرت عن اليأس والإحباط، لأن هذه الثورات لم تأتِ من فراغ أوعبث ثقافي، الأمر الذي نلتمسه في اليأس الكبير في كتاباتنا، وفي ظلمة الصفحات، هناك كلمات أضاءت الطريق لبعضنا، خاصة حين تناول كتاب قد يغيرنا لنصبح نحن أيضا بأفكارنا مشروع ثورة ربيع ثقافي، رغم تفاوت في المشاعر من قلب إلى آخر، ومن أرض إلى أخرى .. لكن، ثمة خوف هائل، وخشية من أن تنحو بعض الكتابات للتسطيح، نتيجة السرعة في الرصد، والإلحاح في الكتابة .. ومن طبائع الأمور، أنْ يلجأ البعض للتضخيم، وفي كلا الحالتين، تصبح الكتابة بهذا المعنى، كتابة مجانية لا تتخطى الشعارات، حيث إنّ إعادة بناء المجتمعات العربية، لا تتوقّف بسقوط الأنظمة، بل تحتاج إلى عمليات جراحية مؤلمة، لا يستخدم معها أي مخدر من أي نوع، وأنّ الكتابة القاسية هي التي تبقى لتأريخ ثورات الربيع العربي، لأنها نتاج قسوة ما كشفت عنها تلك الثورات، وهي أيضاً تكشف ما غفلت عنه.
و بالرغم من تناقض الأولويات في مجتماعتنا العربية واختلاط الأفكار، التي أصبحت منقّحة بقشور الانفتاح على الثقافات العالمية، فنحن مع الانتباه إلى حاجة المواطن العربي بكل مستوياته الاجتماعية و العلمية و الفكرية إلى ثقافة وطنية مكثفة مركّزة، يتم ضخها في مناهجه الدراسية وفي سلوكيات الإعلام الذي تقاعس في خدمة الثورات بمفهومها الإيجابي، علّنا نستعيد وحدتنا الثقافية والفكرية ونوفّر لها آلياتها المطلوبة .. استنادا إلى قداسة التاريخ والهوية واللغة الأم .. فطالما كان المثقف العربي يطمح ويأمل خيرا في رياح التغيير حتى يتجرد من ثياب القيد والقمع الذي تمارسه الأنظمة، لأنه لا يوجد بلد عربي إلا وأهينت فيه الثقافة بكل فصولها وفنونها، وما من أمة عربية إلا وانحنت أمام السياسة حتى اندمج كل مثقف عربي في دواليب الدولة الصنميّة، و ما هذه الحالات إلا سمات للحرب الباردة والحاقدة داخل المجتمع الكبير .. حرب دفينة في وعي المثقّف التي يخوضها عبر قوالب جامدة، وهذا هو ما يمكن أن يسمّى “الوعي الجامد” أو ” الوعي السائد”.