
بقلم- سعيد ودغيري حسني
في زمن كانت فيه أصوات الشعوب مستلبة وألسنة الملوك مكبّلة، وقف محمد بن يوسف ملك المغرب شامخا في وجه الجبروت الاستعماري .. متحديا فرنسا وإسبانيا وكل القوى المتواطئة على الوطن والوحدة والحرية، لم يكن ذلك الخطاب في طنجة يوم 9 أبريل 1947 مجرد كلمات، بل كان طلقة مدوية في صدر الاستعمار .. قبلها بيومين فقط، كانت الدار البيضاء قد اشتعلت دما ونارا .. سقط الشهداء في أزقتها وشوارعها فقط، لأنهم آمنوا أن الوطن لا يُشترى ولا يُستأجر .. كان الهدف من المجزرة واضحا .. إشاعة الفوضى وترهيب الشعب وثني السلطان عن السفر إلى طنجة .. لكن، محمد الخامس لم يكن رجلا عاديا .. كان يحمل قضية أمة في صدره، ويمشي فوق الأرض بثبات من يعرف أن اللـه معه وأن شعبه خلفه
دخل طنجة في موكب مهيب والعيون تدمع والقلوب تخفق .. كانت طنجة مدينة تحت الإدارة الدولية .. لكن، المغاربة فيها كانوا مغاربة حتى النخاع .. اجتمعوا بالمئات ليستمعوا إلى سلطانهم .. وقف وخاطب العالم، لم يطلب فقط استقلال المغرب، بل طالب بوحدته .. قالها بصدق وبصوت واثق: .. المغرب دولة واحدة من طنجة إلى الكويرة، كل شبر فيه غال وكل فرد فيه حر .. كانت تلك الكلمات صدمة للاستعمار وصفعة في وجه الطغيان، فمن داخل مدينة تحت الحكم الدولي خرج صوت السيادة والاستقلال، لم يكن خطاب طنجة مجرد خطاب، كان بداية النهاية لعصر الوصاية، وكان بداية الوعد بالتحرير
تلاحقت الأحداث بعد ذلك بسرعة .. اشتدت المقاومة واشتعلت الجبهات، كل شهيد يسقط كان يشعل شعلة في قلب الوطن، وكل معتقل كان يرسل من زنزانته رسالة أمل .. ومرت السنوات كأنها قرون .. لكن، الشعب لم ينس، وظل الملك على العهد حتى جاء يوم آخر من أبريل هذه المرة سنة 1956، حيث انتقل محمد الخامس إلى تطوان ليعلن منها عودة الجزء الخليفى إلى حضن الوطن، لم يعد الحديث عن الاستقلال فقط، بل عن استكمال الوحدة الترابية .. كان يوم 9 أبر1956 يوما آخر من أيام العزة .. دخل تطوان لا كملك عاد إليها، بل كرمز لبلد استعاد كرامته وسيادته، لم تكن تلك التحركات معزولة عن سياقها العالمي، كانت حركة تحررية تنبع من قلب الأمة وتستجيب لنداء الأجيال، لقد فهم المستعمر منذ خطاب طنجة، أن مشروعه في المغرب بدأ يتهاوى، لم يعد محمد الخامس حاكمًا تحت السيطرة، بل زعيمًا دوليًا يلقى الاحترام في المحافل الأممية، وتحولت زياراته داخل الوطن إلى استفتاء شعبي دائم، تتزاحم فيه الجموع وتُرفع فيه الرايات
نساء المغرب شاركن في المعركة ببطولة وصبر .. الأمهات ربّين جيل المقاومة، والمعلمات ربّين الوعي، والفلاحات خبأن المقاومين في الحقول .. كانت المعركة شاملة الروح فيها أعلى من السلاح والكرامة فيها أقوى من الرصاص .. لم تكن طنجة مدينة فقط، بل رمز لوطن ينتظر التحرر، ولم تكن البيضاء مسرح مجزرة، بل مرآة لبشاعة الاستعمار ولم تكن تطوان نهاية المطاف، بل بداية البناء الحقيقي لدولة جديدة .. محمد الخامس، لم يراوغ ولم يهادن، قال كلمته واضحة: نحن أمة ترفض الذل وتحب السلام .. لكن سلامها لا يكون على حساب الأرض ولا على حساب الهوية
لقد تشكل وعي سياسي جديد في تلك الحقبة، أدرك المغاربة أن الحرية تُنتزع ولا تُمنح وأن استقلال الأوطان لا يُكتب بالحبر، بل يُروى بالدم، فخرجت القرى والمدن والمساجد والزوايا والساحات تنادي باسم الوطن، من فاس إلى سوس ومن الريف إلى الصحراء .. كان الطفل يحمل رسالة والشيخ يحمل دعاء والمرأة تحمل خبزا للمجاهدين، وكانت الجغرافيا كلها في خدمة التاريخ .. لقد أُسقط القناع عن الاستعمار في طنجة وكُشف عن وحشيته في الدار البيضاء، واحتُفل بهزيمته في تطوان .. واليوم، وبعد عقود لا يزال ذلك الخطاب يتردد صداه، لا لأننا نحب البكاء على الأطلال، بل لأننا نعرف أن من لا ذاكرة له لا مستقبل له، فالمجد لا يُصنع بالنسيان، والحرية لا تصان بالغفلة
زبدة القول
من الدار البيضاء إلى طنجة إلى تطوان رسم المغاربة خريطة الاستقلال بالنضال والدم والشرعية، لم يكن الملك وحده في المعركة ولا كان الشعب وحده في الميدان، كانت وحدة استثنائية أنتجت وطنا مستقلا .. واليوم، ما أحوجنا إلى استحضار تلك الروح في بناء مغرب الغد .. مغرب الحرية والكرامة والسيادة المتجدد