عاش وحيدا يصارع المرض ورحل في صمت
إهداء إلى روح فنان الزمن الجميل
شاعر غنائي متميز .. يحيي الكلمة قبل أن يلدها .. رقيق الإحساس .. مرهف .. يفيض شاعرية .. يعشق الكلمة الصادقة والصور الحالمة الموحية .. له قصائد كثيرة ومتنوعة الأغراض .. موزعة على الوجدانيات .. الغزليات والوطنيات .. يهوى معانقة سماء الخيال الشعري .. يرفض أن يسمى ناظم كلمات، لأن الشعر بالنسبة له معاناة وحالات نفسية لا تخضع لمقياس معين، بل تتجاوز الزمان والمكان .. هذه هي صفات الإنسان البسيط، الذي كان يعتز بمغربيته ويعشق عمله .. كان أيضا يحب القراءة .. يميل كثيرا إلى سماع الموسيقى والغناء .. تستهويه الكتب التي تناقش قضية الوجود .. وكل النظريات السياسية والفلسفية التي تناقش فكرة الإيمان .. والخالق .. والخلق .. الكتابة عنده تساوي معنى الوجود .. كما قال رحمه اللـه ذات مرة في حوار أجرته معه جريدة المستقلة بريس .. :” الكتابة عندي جمعت كل ما في نفسي وروحي، الهواية .. العمل .. الموقف والتعبير عن النفس، والحصول على مبرر للتواجد”
أجل، و كما سبقت الإشارة إلى ذلك، هذه هي صفات .. مبدع رائعة “سوق البشرية” التي فازت بالجائزة الكبرى لمهرجان الأغنية العربية بالقاهرة، والتي كانت موضوع دراسة أنجزتها الدكتورة الأستاذة الجامعية الباحثة نعيمة الواجدي، تحت عنوان (النص الزجلي في الأغنية المغربية : سوق البشرية نموذجا) .. نعم، إنه الشاعر الغنائي عمر التلباني رحمة اللـه عليه
بكتابته لهذه الرائعة، حاول الأستاذ عمر التلباني، أن يتجاوز موضوع الحب الذي يهيمن في معظم النصوص الغنائية المغربية، ليتحدث عن مضمون جديد يساير الظروف الراهنة، لأن رائعة “سوق البشرية” حاولت أن تعانق العالمية من خلال معالجة قضية تتعلق بانهيار القيم في سوق تتحكم فيها الدول الغربية .. لهذا، نلاحظ أن مضمون “سوق البشرية” انعكس بشكل جلي على قالبها الموسيقي، فبدت مخالفة لغيرها من الأغاني التي تعتمد على التطريب …”
للتذكير، فقد بدأ الشاعر الغنائي عمر التلباني، بكتابة الشعر العربي الفصيح كنتيجة لتعلقه و ولعه بالأدب العربي عموما، وكان أمله أن يصبح شاعرا كبيرا مرموقا باللغة العربية الفصحى .. غير أنه فضل فيما بعد كتابة القصيدة بالشعر العامي، التي تكون في مستوى القصيد الفصيح من حيث الروح والصور الشعرية، والأبعاد والإيقاعات الجميلة .. مع ضرورة بلورة الكلمة العامية والارتقاء بها إلى الأفضل .. لخلق لغة ثالثة تكون مفهومة على نطاق واسع، أو بعبارة أدق على مستوى العالم العربي .. في الحقيقة، كان التلباني فنانا حقيقيا، يملك القدرة أكثر على الخيال والتصور .. كانت كتابة الأغنية بالنسبة له نوع من أنواع ركوب المستحيل .. وتحقيق الطموحات والتطلعات إلى المستقبل .. ونوع من أنواع إضفاء السعادة على الآخرين
تعامل المرحوم خلال مساره الفني الطويل مع العديد من الملحنين المقتدرين، ك.حسن القدميري .. محمد بنعبد السلام .. عبد اللـه عصامي .. سعيد الشرايبي .. عبد النبي الجراري وإبراهيم العلمي، وغيرهم .. ومع عدد كبير من مشاهير الأصوات المغربية والعربية، ك.عبد الهادي بلخياط .. عزيزة جلال .. سميرة بنسعيد .. محمود الإدريسي والمطربة المصرية نادية مصطفى وعبد الوهاب الدكالي وغيرهم كثير
رغم مساره الفني الحافل بالأغاني المتميزة .. العاطفية والوطنية، التي ألهمت الحماس الجماهيري، سواء المغربي أو العربي .. والتي نالت شهرة لا نظير لها .. عاش المرحوم التلباني وحيدا في منزله بالحي المحمدي بمدينة الدارالبيضاء، الذي كان قبل إصابته بالعلة قبلة للعديد من الفنانين الذين كانوا يستعينون بشعره لإنجاز أغانيهم .. وقد ظل منذ سنة 2013 يصارع المرض اللعين الذي لم ينفع معه العلاج في صمت مريب .. لم يجد عونا لإيجاد حل لمشاكله الصحية التي واجهها بمعنويات جد مرتفعة، وبصبر فاق المستحيل، في غياب أي مؤازرة من أي جهة كانت خاصة أو رسمية
ما يحز في النفس أكثر، هو تنكر أصدقاء التلباني له .. وما أكثرهم، بالإضافة إلى الجهات المسؤولة عن قطاع الثقافة، وكذا وسائل الإعلام التي غيبت هذا الفنان القدير من الكثير من المحافل، ولم يتم بتاتا الاعتراف بالمجهودات التي قدمها بصبر كبير، وبعزة نفس، ودون تملق في المجال الفني، حيث ظل يعاني وحيدا حتى أسلم الروح لبارئها في الساعات الأولى من صباح يوم الثلاثاء 15 دجنبر 2020، وشيعت جنازته إلى مقبرة الغفران بالدارالبيضاء، في موكب جنائزي باهت، يخلو من نجوم الفن الذين سطع نجمهم بفضل ما أنجزته أنامله .. (ربما وجدوا في الإجراءات الاحترازية المتعلقة بجائحة كورونا مبررا لغيابهم) .. بصريح العبارة، فقد عرف المرحوم الكثير من الإهمال والإقصاء في حياته، وعرف أيضا موكب جنازته هجران أهل الفن، وخصوصا كاميرات الإعلام الرسمي بالبلاد التي ألفنا حضورها في العديد من مواكب الجنائز الخاصة بمختلف الفنانين والشخصيات
لا يسعنا في نهاية هذا الإهداء المتواضع، إلا قول إنا لله وإنا إليه راجعون .. سائلين الله جلت قدرته، أن يتغمد الفقيد بواسع رحمته ويسكنه فسيح جناته ويلهم أهله جميل الصبر والسلوان
محمد زمران صديق الصبا
.