الكاتب عبد الكريم علمي يبدع من جديد بقصة قصيرة موسومة ب “العفر والذئب” .
* عبد الكريم علمي
يُحكى أن ذئبا من الذئاب، كان يصطاد في الغابة ويبحث عن فريسة، وقد نال منه الجوع الشديد وأصابه الهزال، لقلة وندرة ما يظفر به من صيد، وصادف أن وجد عفرا، متحصنا خلف الصخور والحجارة، في جبل صخري شامخ، ذي منحدرات وحواف خطيرة، لا يستطيع أحد سلوك منحدراتها أو صعودها إلا الوعول والغزلان والظباء.
نطق الذئب مخاطبا العفر: عم صباحا يا أخي العفر.
العفر: وعمت صباحا، ولكن أنا لا أعرفك فمن تكون يا هذا ..؟
الذئب : أنا أبو الحارث، ألا تعرفني ..؟ ولماذا أنت مُتحصن خلف هذه الحجارة ..؟ هل تخشى من شيء وتحترس منه ..؟
العفر: نعم يا أخي يا أبا الحارث، لقد أوصتني أمي أن أحترس من الذئب لأنه مفترس، وأنا في حياتي ما رأيت الذئب، ولذلك فأنا أخاف من أي حيوان أراه، إذْ يُخيل إلي بأنه هو الذئب.
الذئب: لا يجب أن تخاف يا أخي، فهذه الغابة لا ذئاب فيها، أوَلم تعرف بعد أن الذئاب قد انقرضت منذ عهد بعيد.
العفر(غاضبا): هل تُريد يا هذا أن تقول لي بأن أمي كاذبة، وهي التي أرضعتني من حليبها وأحاطتني برعايتها وعنايتها، وأغدقت عليَّ بعطفها وحنانها، وحمتني إذ أنا رضيع صغير لا أعقل ولا أميز ..؟
الذئب (بلطف مصطنع): حاشا للـه يا أخي العفر أن أتهم أمك العظيمة بالكذب، ولكن الأمهات من شدة خوفهن وخشيتهن على أبنائهن، فإنهن يصطنعن لهم قصصا وحكايات خرافية، ليخافوا فلا يغادروا أماكنهم، حتى لا يحدث لهم سوء أو يُصيبهم مكروه، تماما كالقصص التي نسمعها عن النساء من بني آدم في عالم الإنسان المنقرض، تقول هذه الأساطير: أن أنثى الإنسان تُخوِّفُ ابنها بوحش خرافي اِسمه الغول، وهذا الغول غير موجود في الواقع، فيصدق الصغار وينزجروا عند سماع كلمة غول، وهم يُصدقون لأن عقولهم لم تنضج بعد.
العفر: ومن هو هذا الإنسان يا أبا الحارث ..؟ وما خبره ..؟
الذئب(متنهدا): آاااهٍ يا ولدي يا عفر، إنه مخلوق شرير وخطير، يعيش على الحروب وينام على الدم ويستيقظ على القتل، له همة كبيرة وشراهة أسطورية في سفك الدماء، يسري ذلك في دمه، إنه مخلوق دموي وهمجي، سفك الدماء عنده تسلية، والتدمير والتحطيم له هواية، والإبادة وحرق الأخضر واليابس متعة يُرَوِّحُ بها عن نفسه، والحمد للـه أنه انقرض، فلو قُدّر له البقاء لاستمرت متاعب هذه الأرض التي نعيش عليها، ولاستمرت معاناة الخلق، ولأفنى هذه الأرض من ساكنيها، ولانتهت الحياة على هذا الكوكب منذ زمن بعيد، ولكن الحمد للـه على ما كان، فهو قبل أن يُفني الآخرين من غير جنسه، فإنه أفنى نفسه مع بني جنسه، إن المخلوقات الأخرى من دونه في أمن وسلام وعافية، وفي رغد عيش وطمأنينة، إنه يا قرة عيني سم زعاف، لن يهنئك العيش في وجوده، ولن تنجو بنفسك منه ولو رحلت إلى كوكب آخر، إنه مدمر، يُدمر كل شيء، يُدمر المخلوقات بما فيها بنو جنسه، بطريقة ممنهجة ومنظمة، كان بنو جنسنا في زمانه قبل أن يرفع اللـه عنهم ذلك البلاء، يعيشون في ضيق وكرب وهم وغم، فمن عاش يومه فإن غدا موته، ومن عاش غدا، فإن بعد غد هلاكه، إنها مسألة وقت عنده، وليس لأننا نحسن الفرار والاختباء من كيده وغدره وجبروته.
العفر: أعوذ باللـه من هكذا خليقة، والحمد للـه الذي خلقني في زمان غير زمانه.
الذئب: نعم إن الحمد والشكر للـه، واحمده أيضا لأنه خلقك في زمن أبي الحارث، العالم العارف، ليحكي لك تواريخ الأمم الغابرة الهالكة، ويرشدك ويدلك، فمع أبي الحارث تـجـتـنـب الـمهالك والكوارث وتعرف الصواب والسداد، و تسلك سبل الرشاد.
تعال يا أخي واخرج من حصنك، فإنني أعرف حقلا قريبا من هنا، مليء حشيشا أخضر طريا وشهيا .. هيا أيها البطل بادر، واحصل على طعامك بنفسك، فإلى متى ستبقى تعتمد على والدتك، لقد كبرت بما فيه الكفاية، ومن العيب أن تبقى معتمدا في رزقك عليها دائما، أرح هذه المسكينة وأدخل السرور على قلبها بأنك أصبحت يافعا تعتمد على نفسك، ولست في حاجة إلى أحد، ومن المؤكد أنها ستسر، وتفرح كثيرا عندما تعلم بذلك، فأرها من نفسك ما أنت أهله وجدير به.
العفر: هل تعتقد ذلك حقا يا أبا الحارث ..؟
الذئب: وهل يقول أبو الحارث غير الصدق ..؟ ولكن، معك حق فأنت لا تعرفني، فلو كنت تعرفني حقا لأدركت مدى صدقي وقولي للحق دائما .. حتى أن أهل الغابة يلقبونني بالصادق الأمين .. ولكن، أليس لك إخوة ليذهبوا معنا، فيأكلوا ويمرحوا ويستمتعوا هم أيضا ..؟
العفر: لا يا أبا الحارث فأنا وحيد أمي.
الذئب(في سره متحسرا ومتهكما): يا للأسف، ليته كان لك إخوة وترافقونني جميعا، فأنا لي رفقة في المغارة يتضورون جوعا، وسيفرحون كثيرا لرؤيتكم، ويلقونكم بالترحاب والعناق والتقبيل، وليتني كنت مثلك وحيد أمي، لابد أنك شبعت حليبا أيها اللئيم عندما كنت رضيعا، لأنه لا يوجد لك منافسون، وحتما فإنك مازلت تحظى بـالعناية لأنك وحـيد، فالوحيـد قرة عين والديه، يعيش مدللا مرفها، أما عني فلقد كـان لي سـتـة إخوة، وكنت لا أكاد أُحَصِّل قطرة حليب واحدة معهم، فقد كنت أصغرهم وأضعفهم والمنافسة شديدة، والذي يحظى بقطرات يَبُلُّ بها لسانه فقد وُهبت له الحياة، وكُتبت له النجاة، بعد أن أوشك على الممات، وحليب أمي نزر يسير، فما نكاد نمصُّ مصَّة واحدة حتَّى تُبعدنا عن أطبائها بعد أن تتأذَّى منَّا، فهي ما كان بمقدورها أن تشبع جوع واحد منا، فضلا عن جميعنا، حتى إنني وددت وقتها لو أن أمي وفي غمرة من غمرات جوعها الشديد، افترست إخوتي جميعا وأبقت عليَّ دونهم، وجعلتني وحيدها فأستمتع بحليبها وحدي، ولو أنني حينها كنت قادرا على التهامهم لفعلتها، وما أبقيت على أحد منهم، وما ترددت لحظة واحدة، وقبلهم جميعا أمي، ولذلك فقد عانيت من الجوع صغيرا، وما زلت إلى اليوم أعاني منه، آاااهٍ من الجوع، لو كان الجوع جملا لأكلته .. تعال يا صغيري ورافق عمك أبا الحارث، فإن الذي يرافق أبا الحارث يستمتع حقا .. ولا يندم أبدا .. وكيف يندم من كان له أبو الحارث الصادق الأمين ناصحا ومرشدا ورفيقا ودليلا ..؟
وصدق العفر كلام الذئب واطمأن إليه، وبعد تردد خرج وهبط من حصنه، وترافق مع الذئب، وفي أثناء الطريق قال العفر للذئب: لا تلمني يا أخي في خوفي، فأنا لا أعرف العدو من الصديق، وإنني أخشى أن يأتي يوم وأقع في مصيدة المفترس.
الذئب(في سره): إن من لا يعرف العدو من الصديق، حري به أن يعتقد العدو صديقا، وصار له أبو الحارث صديقا ورفيقا، ثم مخاطبا العفر: لا داعي للخوف يا صديقي فأنا أحميك بنفسي، وأبذل لك روحي فداءً إن حدث أي خطر لك.
وتحت طائلة الجوع نسي العفر لائحة الممنوع، وتبع الذئب إلى حتفه وهو مخدوع، وصار بذلك فريسة سهلة الوقوع، وهما يسيران في الطريق، تذكر العفر وصية أمه، وتذكـر مـن بـيـن مـا قـالـت له : … ياصغيري ويا فلذة كبدي، إنني أخشى عليك أكثر من نفسي، فاصغ إلى أمك وأحسن الاستماع والفهم، لا تأمن ولا تُصدق ولا تصادق أحدا، ولا تركن إلى أي كان، فالصديق متى انقلب عليك كان أخطر من العدو، لأنه يعرف مواطن الضعف فيك، وأما عدوك فلا يعرف عنك مثله، ولربما كان هو العدو نفسه في ثياب الصديق، يا اِبني إن كل من لا تعرف في هذه الغابة هو وحش وغير مُؤتمن، يا ابني إنه لا جدوى من اللطافة والوداعة والألفة، إن عصر اللطافة والوداعة والألفة قد ولّى منذ زمن بعيد، إن أهل الغابة يا ابني كذابون، غشاشون، مراؤون، منافقون، فالحذر الحذر ..!
وعندما تذكر العفر هذا الكلام اضطرب وخاف، ومما عزز في خوفه أكثر، أنه لاحظ الأنياب الطويلة القاطعة للذئب، وكذلك أسنانه التي لا تشبه أسنانه ولا أسنان والدته، وكانت أمه قد أخبرته بأوصاف المفترسين، وهذه من بين الصفات التي حكتها له، فارتاب من الذئب وساوره شك كبير، وندم ندما شديدا على نزوله من حصنه ـ ولكن بعد فوات الأوان ـ وقـرر الـعـودة وقـال مـخاطبا الذئب: عُذرا يا أخي يا أبا الحارث، إنني لن أكمل المسيرة معك، سأعود إلى حصني، ففيه سلامتي وراحتي، وسأكتفي بالقليل من الزاد، لأن الاكتفاء بالقليل المضمون، أصون للنفس وأسلم من المغامرة في طلب الكثير اللامضمون.
حاول الذئب طمأنته والتهدئة من روعه، ولكن العفر أصر على موقفه، وعندئذ قال له الذئب بنبرة حادة: اسمع أيها الصغير، إن من سار في طريق فعليه أن يُؤمن خط الرجعة، فلعله أن يُضطر للعودة وأنت يا عزيزي لم تفعل، وذلك خطأ فادح وكبير، وقعت فيه ياأيها الغر الصغير.
العفر(متفاجئا وخائفا ومستفسرا): ما الذي تقصده بكلامك هذا يا أبت ..؟ فأنا لم أفهم.
الذئب(محتدا) : أنا لست لك بأب، أنا أبو الجراء الجوعى الذين هم في المغارة، والذين لم يذوقوا طعاما منذ ثلاثة أيام، وأما ما أعنيه فسوف تراه الآن بعينيك، ولا تسمعه بأذنيك.
ثم إنه انقض عليه ودق عنقه وقال: إذا لم تنفع الحيلة والليونة في بعض الأحيان، فإن القوة والشدة تنفع في كثير من الأحيان. سأتحمل تعب جرك أيها الأبله الصغير إلى حيث مغارتي ـ حيث زوجتي المريضة، وأبنائي الصغار الجوعى، الذين لم يذوقوا أكلا منذ ثلاثة أيام ـ ولا أفرط فيك أبدا، لقد حاولت معك بكل ما أوتيت من قوة الحيل والمكر والخداع، لاستدراجك إلى حيث مغارتي، فأوفر على نفسي عناء جرك ولكنك أبيت، وأنا هزيل لا أقوى على تحمل جرك إلى هنالك، ولكن ما حيلتي إذا لم يكن بوسعي غير أن أجرك .. ثم قال بعد ذلك (متشفيا متهكما): إن الصغير الذي يخالف نصائح أمه، ويصم عنها أذنيه، ولا يستمع إليها، لا تحسن عاقبة أمره، وينتهي به الحال إلى حتفه، هاهاها .. بل إلى أنياب أبي الحارث وزوجته وأبنائه، هاهاها ..
* قاص و روائي