ذ. عبد الرحمان مجدوبي
سفر وتعب في سبيل الكلمة الهادفة، وخصام مستمر مع الحال والواقع بأماكنه وأشخاصه وملامحه وتراثه وأعرافه وكواليسه، فالكتابة تكشف المستور وتعري النتوءات وتعيد صياغة بنود الولاءات والمبايعات وتأسيس مناطق النفوذ وحيز المناورات، يتم ذلك بسلاسة لا مثيل لها وبنتائج أصبحت تعقد لها جلسات المحاكم وتصاغ لها بيانات الرأي العام، وتتحرك من أجلها منظمات حقوق الإنسان وهيئات الدفاع عن حرية التعبير والكتابة، فبالكلمة يرتقي الإنسان إلى العلا وبها يسقط، وبها تحفظ هيبته أو تضيع، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “أظل أهاب الرجل حتى يتكلم…”، وقال علي رضي الله عنه:” المرء مخبوء تحت لسانه”، وقال سقراط: ” تكلم حتى أراك”، وبالكلمة يعلو شأن من أحببنا، وتطيح قيمة من خالف المنهج وسار في غير دربنا ومذهبنا.
بالكلمة غير الناس أديانهم ومعتقداتهم وعاداتهم وأعرافهم ومراجعهم وقدواتهم، قال الله تعالى على لسان سيدنا موسى: ( واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري ) [ طه : 27 – 32 ]، وبسبب الكلمة سجن العلماء والأدباء والمفكرون، وبشحنتها الموجبة تقربوا للسلطان ونالوا الرضا والمنصب والجاه وحفظت أسماؤهم في سجلات الخالدين، وبالكلمة حقق الأنبياء العدل وحاربوا الفساد والطغيان، وفصلوا بين الحقيقة والبهتان، بين عزوبية البشرية وخصوبة الإنسان، قال الله تعالى على لسان سيدنا موسى: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ) (القصص34).
نعم بالكلمة ترد الحقوق إلى حضرتها، وتتجمل الشفاه ببسمتها، والزهور بعطرها وأريجها، وماء الوجه يغدو غديرا صافيا زلالا، أو لوحة عكرة تتخدر بمساحيق الكذب والزور والبهتان ارتجالا.
الكلمة وجع و ولادة قد تكون طبيعية بآلامها أو قيصرية بأوجاعها تمس نساء ورجالا كما مست ابن رشد والكندي وابن الراوندي والمعري والجاحظ وجابر بن حيان ومحمد بن جرير الطبري وابن المقفع والوليد بن أحمد بن رشد والشاعر العراقي أحمد النعيمي (صاحب قصيدة نحن شعب لا يستحيي)، تمس الحابل والنابل وتضرب العمالقة وتهدم المماليك وترفع من شهامة النساء والرجال (وامعتصماه) ليكتب الخلود لأمة بأكملها، أو تضيع بين مجالس السمر ومحافل النكت والمجون والترف والفكاهة كما ضاعت الأندلس من بين أيدينا.
الكلمة عهد وعقد وأمان وموثق وذمة والتزام خاص في مقابل شخص على أمر (1)، قال الله سبحانه: (والذين هم لأمانتهم وعهدهم راعون) المعارج 32. وعهد منبعث من الإيمان اليقيني الجازم، مما يجعل الإخلال بها خيانة وانفراط ونفاق وشقاق ورعونة تفك بنيان المروءة وتهدم أسس الدولة والمؤسسات بتكلفة لا تتعدى شراء ذمم ثمنها علبة سيجارة أو ..!
الكلمة أفق، والأفق: خط دائري يرى فيه المشاهد السماء كأنها ملتقية بالأرض، وخط الأفق ملتقى الأرض بالسماء (1)، فتلك مكانتها وعرينها الذي لا يسبر أغواره إلا ذوي الشرف ممن لا يشبع نهمهم إلا نور ثريا تتعالى على وسخ أياد تبيع الحصى ثمرا، والجمر في حر الرمضاء قهرا، والأنوثة بالدينار والدولار عهرا، والمواقف بمتاع الدنيا وزهرتها تقدم لأشباه الرجال مهرا.
الكلمة سيف في الطلاق والحب واليمين والشهادة والإيمان والردة والكفر، فرغم سطوة نابليون الإمبراطورية إلا أن الكاتب “سانت بيف” صاح في وجهه مدافعا عن حقه في النقد ما دفع الامبراطور إلى الاعتراف بأن التاريخ إذا كان له نصفان فأحدهما السيف والآخر الكلمة .. ويروى عن إمبراطور آسيوي أنه طلب من حاشيته ذات يوم أن تدله على الشعراء الذين لم يسبّحوا بحمده، فلم يجدوا إلا واحدا، عندئذ استدعاه الإمبراطور وأمر بإعدامه في ساحة عامة تعج بالناس، لكنه ما أن رأى السياف يشهر سيفه حتى صاح به قائلا: أتركه واترك لهذه البلاد رجُلها الوحيد، لأنها من بعده ستصبح أرملة.(2)
الكلمة فن امتهنه الشعراء في السلم والحرب، فرفعت أقواما و وضعت أقواما، فبها يكشف صلب الشعراء ومعدنهم، فهذا رافع راية الدفاع عن كرامة الأمة يتحدى ويصوغ الكلام داعما ومرعبا، وهذا ناسج من ألوان اللهو والغزل والتكسب دربا، قال الله سبحانه وتعالى:(ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون، ومثل كلمة خبيثة كشجرة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار) إبراهيم:24، فالشعـر هو حديث الروح، وبالكلمة تتفتح لها مغاليق القلوب، وتنساب دافقة بين حنايا الضلوع.
الكلمة نبع ماء حي يتجدد تسكنه الحركة والصفاء فيستعمل للطهارة والنقاء، والشفاء والمداواة، قال الله سبحانه وتعالى” وَاذكُر عَبدَنا أَيّوبَ إِذ نادى رَبَّهُ أَنّي مَسَّنِيَ الشَّيطانُ بِنُصبٍ وَعَذاب (41) اركُض بِرِجلِكَ هـذا مُغتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ ﴿42﴾ “وهي أيضا غيث، قال الله تعالى” وَهُوَ الَّذي يُنَزِّلُ الغَيثَ مِن بَعدِ ما قَنَطوا وَيَنشُرُ رَحمَتَهُ وَهُوَ الوَلِيُّ الحَميدُ ﴿28﴾ الشعراء”، فتكون الكلمة رحمة للإنسان كما الكلمة الطيبة التي تعدل الصدقة في الأجر والثواب، وتفصل بين الحق والباطل كما هي شهادة الموقن العدل الصادق، وقد تكون سوءا ويتحول هذا الينبوع إلى ماء راكد آسن أو سلاح يدمر الأخضر واليابس، قال الله تعالى”وَلَقَد أَتَوا عَلَى القَريَةِ الَّتي أُمطِرَت مَطَرَ السَّوءِ أَفَلَم يَكونوا يَرَونَها بَل كانوا لا يَرجونَ نُشورًا ﴿40﴾ الفرقان “
وأخيرا أقول: الإنسان الذي لا يؤمن بقوة وسطوة الكلمة إنسان زائف انفرط عقده وتزعزعت ذاكرته وضاعت هيبته وتدلست سمعته بين دهاء المرتجلين وفصاحة العارفين وخبث الدجالين.
(2)- جدلية السيف والكلمة لهادي منصور-القدس العربي-