التسامح وفرص التعايش بين الأديان والثقافات بين الواقع والمأمول – تـابـع
ذ. عباس أعومري
ذة. خولة خمري
هذه المداخلة المشتركة، بين ذ. عباس أعومري و ذة. خولة خمري، كانت خلال فعاليات المؤتمر العلمي التاسع، تحت شعار:
النهوض بالبحث العلمي خطوة أساسية في بناء العراق الموحد
دور المثقف الواعي في إيجاد فرص التعايش
قديما قال الشاعر:
اقرؤوا التاريخ إذ فيه العبر … ظل قوم لا يدرون ما الخبر.
بيت شعري على قلة حروفه .. لكن، معانيه تحمل الكثير من الدلالات والسياقات التاريخية والحضارية التي تختزل العديد من الملامح المشكلة لتطور الأمم، لتميط لنا اللثام مبرزة تلك الملامح الكاشفة لبواطن ما اكتنف التاريخ من أحداث وصراعات بشرية، مشكلة بذلك منعرجات حضارية خطيرة رفعت أمما عاليًا في السماء وأسقطت أخرى أرضًا في حين أخرجت الكثير من سياقها تمامًا معلنة أن لا مكان لها على الركح الحضاري لتحولات العالم وسياقاته .. فالركح يا سادة شعاره “كن أو لا تكن” حكر على الأقوياء لا مكان فيه للضعفاء، والجدير فيه بحمل وسام البطولة الحضاري من يثبت وجوده لا استسلامه.
يقول ماجد الغرباوي “ثم إن المثقف الإسلامي وعى الإسلام وعيا حضاريا، اعتمادا على التراث وليس منفصلا عنه، من دون أن يعيش وهم الماضي، بل ينطلق منه لبناء المستقبل، فيستمد منه القيم لتكون أساسا في ممارساته الاجتماعية والسياسية، فلا يشعر بالغربة من القيم السائدة، وإن كان من ضمن اهتماماته إلغاء ما هو غريب عن قيم الإسلام والإنسانية”(14). فهذا هو جوهر الإسلام القائم على الجد والاجتهاد والوعي العميق بالتراث ودوره في الحراك الاجتماعي القائم على التعدد والتنوع وهو ما يفتح إشكاليات قيم التسامح والتعايش على مصراعيها، وهنا يبرز الخطاب الواعي للمثقف الإسلامي الذي يحسن التعامل مع هذه الإشكاليات.
إن تكريس مفاهيم وقيم التسامح والدعوة إليها منهج متأصل في نصوصنا القرآنية وسيرتنا النبوية، وكان للمثقف الإسلامي الواعي الدور البارز فيه، وفي هذا تحدث ماجد كثيرا .. ففكرة التعددية الثقافية وفق الرؤيا الإسلامية تختلف اختلافا كليا عن مثيلتها الغربية، فالتعددية الثقافية وفق النظرة الغربية كما يرى ماجد الغرباوي “قامت باختزال الدين إلى مجرد تجربة روحية باطنية بمعزل عن الحياة يستطيع أن يعيشها كل إنسان، وفصلت ما بين الشريعة والدين”(15) وهو ما يعترض عليه المثقف الإسلامي الواعي وبشدة فديننا يتدخل في كامل تفاصيل حياتنا اليومية، بل هو البوصلة التي توجهنا وتسير حياتنا بوعي وتبين لنا سبل التعامل مع الآخر وكيفية التعامل مع إشكاليات التعددية الثقافية التي لطالما استفاض ماجد الغرباوي بالحديث عنها في مختلف كتبه، وهو نفس الأمر الذي ذهب له المفكر المصري محمد عمارة بحديثه عن التعددية الثّقافية ودور المثقف في إيجادها، حيث يرجع محمد عمارة أصول قيم التعددية الثقافية إلى السنة النبوية بالضبط في ميثاق المدينة المنورة التي اعتبرها عمارة بمثابة “الإعلان الإسلامي عن شرعية ومشروعية التعددية الإسلامية في هذه المساحات من الفكر وتطبيقاته وفي الأدوات اللازمة لذلك، ومنها التنظيمات، تلك هي سنة الإسلام التي شرعت وقننت لمبدأ التعددية في الفكر الإسلامي وفي الممارسات الإسلامية منذ صدر الإسلام والتي بناء عليها وتطبيقا لمنهجها كانت تيارات الاجتهادات الإسلامي مصدرا لثراء الفكر الإسلامي على عهد الازدهار الحضاري الذي سبق عصر التراجع والجمود”(16) .. ولعل هذا يحيلنا إلى تساؤل آخر أكثر عمق، هو كيف لنا أن نخرج من شرنقة ذلك الجمود والانسداد التاريخي الذي جثم على صدر الأمة لمدة طويلة جدا، خاصة في ظل التخبط الكبير الذي يعاني منه، سواء العالم الإسلامي أو العالم أجمع .. لعل ذلك الترياق نجده في الهدي النبوي في سنة التخلية قبل التحلية، ففي الهدي النبوي يوجد ما يسمى بالتخلية قبل التحلية ومن تم يتحتم علينا تنقية الجو الاجتماعي العربي والإسلامي من الشوائب التي تشوبه وتعكر صفو عالمية رسالتنا القائمة على التعددية الثقافية والإنسانية، ومختلف قيم التسامح والتعايش بين مختلف الثقافات والأديان، كحق إنساني مشروع، ومن تم يأتي دور التحلية فيتم التركيز على بعض الأمور المهمة التي تستلزم منا زرع قيم فرص التسامح والتعايش من تعددية ثقافية ودينية في إطار الأمة الواحدة، علما أن مثقفنا الإسلامي الواعي يملك كل المقومات والأسس لذلك، انطلاقا من البوصلة الربانية والهدي النبوي القويم .. ولذلك، لما غاب الوعي الحقيقي لدى المثقف بمجريات فقه الواقع فغاب عنا الفقيه الرباني الذي يحسن التعامل مع متغيرات العصر ومتطلبات المعرفة الجيدة بخبايا متغيرات النص أمام الأسئلة الفقهية الجديدة التي تطرحها التعددية الثقافية، حيث يقول ماجد الغرباوي “في ظل هذه الظروف تشكيل عقل المسلم، وأعيد فهم الدين من خلال قوالب جديدة، فأصبح الدين مجرد علاقة خاصة بين العبد وربه، لا صلة له بالحياة الاجتماعية .. ولما سارت تلك النظرة إلى الفقه، تقوقع في دائرة الفردية، وأخذ الفقيه يفكك بين الموضوعات ويفتي بمعزل عن مقاصد الشريعة وغاياتها، ففقدت الأحكام بالتدريج مداليلها الاجتماعية، بعد أن اعتبرت الفرد وحدة مستقلة لا تربطه أي علاقات أو وشائج اجتماعية، بل تطور الحال إلى حد عجز معه الفرد أن يحدد موقفه من بعض القضايا الحياتية المهمة في ضوء الشريعة، لأن الفقيه لم يتصد للفتوى في تلك المجالات”(17)، وهنا يبرز لنا ذلك النموذج الرباني الإمام الماوردي الذي عرف بمعرفته الشديدة كفقيه بمدينة البصرة المعروفة لتعدديها الثقافية وتواجد مختلف الثقافات بها، حيث كان الفقيه الوحيد تقريبًا من يحسن ضوء الشريعة وإيجاد الفتوى الملائمة لتلك القضايا العويصة الشائكة .. ولذلك، فإن مسؤولية المثقف الإسلامي اليوم كبيرة تجاه المنظومة الفكرية الغربية التي تروج لنوازع العداء ونشر قيم التطرف من مثل قول برنارد لويس: “إنه من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية الإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية، ولا داعي لمراعاة خواطرهم أو التأثر بانفعالاتهم وردود الأفعال عندهم، ويجب أن يكون شعار أمريكا في
ذلك، إما أن نضعهم تحت سيادتنا أو ندعهم ليدمروا حضارتنا” (18)
يتبـــع