قصة .. جِيتار بلا أوتار
القاص / إبراهيم أمين مؤمن
خرجت ريم على كرسيِّها المتحرك إلى حديقة القصر كعادتها لتتأمل سحر الطبيعة، ولتحتفل لأول مرة في حياتها بيقين شفائها القادم من الشلل والتشوه الخلقي، والذي قال عنه الطبيب إنه معجزة ولا ريب
وتعجب الطبيب من التشوه الحجمي في جسدها الذي بدأ ينمو ليتناسق مع باقي أعضاء جسدها
كذلك من هذه الشرايين الضيقة جداً التي بدأتْ تتسع لتؤدى مهمتها بطريقة طبيعية ,. والآن، ريم تتنفس تنفساً طبيعياً إلى حد ما بعد أن كانتْ تعتمد في تنفسها على التنفس الصناعي
هذا اليوم 21 أغسطس لسنة 2013، بلغتْ فيه من العمرال 18 عاماً، ومذ ولُدتْ لمْ تطأ الأرض، إذ كان الكرسي المتحرك هو قدمها وسائقها
وكانتْ تحب خالها جِهاد مثلما تحب أمها، وترى فيه عِوضاً ونظيراً عن حنان أبيها المُفتقد منذ ولادتها، بل أكثر، وكانت دائماً متغيرة المزاج معكرة الصفو بسبب مقاطعة أمها له لانضمامه للجهاديين والمنشقين عن نظام بشار.
ولم تنسْ آخِر مرة، إذ كان يضاحكها ويداعبها، وكان دائم التبسم صافى المزاج ودود الكلمات، وكانت أمها وقتئذٍ خارج المنزل، فلما عادتْ عنّفته وسبّته وطردته من المنزل قائلة “أخرج يا ملعون “
فتمتم تمتمة المتودد المتوسل : ريم تحتاج إلىّ وأنا أحبها أكثر مِنْ …و…و…و…قاطعته هنا
قالت بتهكم : والشعب السور، ألا يحتاج مودتك وحنانك ألا تحبه أكثر من … و…و … ، لا تختلف عن زوجي في شيء، أنتما جسدان بلا روح .. جيتاران بلا أوتار .. ولولا ريم لانفصلتُ عنه .. تنازعتم ,وكانت الضحية، الضحية نحن الشعب .. ثم أشارت بيدها إلى البوابة الرئيسية للقصر، قائلةً أخرج ولا تعد ثانية وانسني وريم .فرد
جهاد:جوليا أختي نحن على الحق و ..!
قالت : أنتم على الحق وبشارعلى الحق، وأيضاً زوجي بشار أبو ريم على الحق، ومن يوالون هؤلاء “مشيرة إلى أماكن تمركز النظام السورى”على الحق، ومن يوالون هؤلاء “مشيرة إلى أماكن تمركز الجهاديين”على الحق، وهؤلاء المساكين”عملتْ دائرة بيدها إشارة على عوام الشعب السوري”على الباطل .. أخرج يا جهاد، ثم قالتها صارخة متوعدة أخرج
خرج خالها والدمع من عينيه منسكب، وقال مودعاً متوجعاً من الفراق: ريم .. ريم
بادلته بمشاعر أعمق ومدتْ يدها له ناظرة إليه وإلى أمها معاً قائلة يا ليتني أستطيع النهوض لعدوتُ خلفك.
دمعتْ عين أمها بسبب كلماتها وهمّتْ بمناداته ولكنه قد فارق
غيّبتْ ريم هذا المشهد الأليم في مخيلتها كي تعيش تلك اللحظات الساحرة في قصر أبيها الذي اشتراه لهما مذ قامت الثورة السورية فى 2011
لم تفرح أمها بالقصر مطلقاً، ولكنها قطنته بسبب فرح ريم العميق به
ريم بين أحضان الطبيعة تستنشق عبير الأزهار وتستمع لتغريدات البلابل، وتلذ عينيها بجمال هذه الروضة التي تتوسط القصر
تشعر بالأمن والهداية وفسيح من الأنفاس المنطلقة في جوف الهواء الطلق النقي
ريم تنتظر غدها لتعش حياتها كأي فتاة طبيعية
فجأة، حلَّ آذانَ ريم صوتُ صواريخ استعمرَ أُذنيها، طارداً صداح البلابل، واستعمر الهواء المسموم أنفها طارداً رحيق الزهور، وانكتمتْ أنفاسها وحاولتْ الصراخ لتستغيث فما استطاعتْ
بدأ جسدها السليم التشنج، بينما العليل المشلول مستريح، كل شيئ تشنج فيها إلا الجزء المشلول “ألف دمعة عليك يا ريم “
وتقيأت وخرج من فمها سائلٌ أصفرٌ، لكن أكثر شيء مُفجع هو ضيق التنفس الطبيعي والذي جاء السارين فأجهزَ على النذْر القليل من التنفس لديها
لمْ تمض سوى لحظات قلائل، بعدها رأتْ أمها تعدو من بعيد لتسعفها ليس لعلمها ما تعرضتْ له من أذى، بل لقراءتها رسالة جاءتها عبر الهاتف من زوجها بشار الذي يعمل ضابطاً كبيراً في المخابرات السورية، نصها “أتركي الغوطة على الفور فالموت قادم خلال لحظات لا محالة إنه السارين المميت”
فلما أقبلتْ مزقتْ ثيابها على الفور ولم تنزعه عنها حتى لا يمر السارين بأنفها وأسكبتْ الماء على جسدها، بيد أنّ الاختناق كان الأشدَ فتكاً بها، وحملتها كي تقلها السيارة إلى مكان بعيد عن القصر
قالت ريم في اللحظات الأخيرة لها، وهي في السيارة، أماه كان نفْسي تري قدماي لأول مرة على الأرض، أسعى إليكِ بهما وأحتضنك
أماه لم يكن ألمي أشد من ألمك، ولا فرحتي بشفائي أشد من فرحتك، لذلك فقد كنتِ عندي أغلى من حياتي.
أماه، هذه أنا، نتاج عمل أبي وخالي، ولكن أخبريهما أني أحبهما
أماه ,. أهجري هذا البلد حتى تأمن الطيور في أوكارها، وتأمن في أرزاقها، وتُغرّد الحمائم ألحان السلام
عندما تري الضباب في السحاب، والزرع في الأرض، والماء يجرى في البساتين، والجيتار له أوتار فاسكني.
أسكني حيث تجدين الأمان الذي أجده أنا الآن، وانُتزِعتْ الروح وخرجتْ ضاحكة كضحكتها
عاد بشّار بعد أيام من الحادثة إلى قصره بزيّه الملكي الذي يختبأ فيه خشية أعدائه من الجيش الحر والجهاديين وبعضٍ من الشعب
عاد فرحاً بالظفر المحقق على الجيش الحر ومواليه.
وحاملاً معه هدايا إلى أبنته التي يرميها لها عِوضاً عن حنانه المنتزع من قلبه لها، منادياً لحظه ولُوجه البوابة الداخلية للقصر
جوليا .. جوليا، أين أنتِ ..؟
ظلّ يفتح كل أبواب الحجرات بأريحية تامة حتى وجدها وبجانبها خادمتها تسْقِها دواءً وعلامات الإعياء والمرض على وجهها شديدة شديدة
انقبض قلبه على الفور وارتسمتْ على وجهه علامات الخوف والوجل والحزن
جوليا .. ماذا حدث ..؟ لماذا لم تخبّريني أنك مريضة ..؟
هل أصابك السارين ..؟ ألم أخبرك بترك الغوطة ..؟ ألم تقرئي رسائلي عبر الجوال ..؟
سكتَ برهة لما تذكر الأطفال الأبرياء الذين ماتوا جراء قذف صواريخ السارين .. فسألها ببرودٍ .. أين ريم ..؟
بصقتْ جوليا على وجهه ثم قالت له : ألم تدفنها، يوم 21 اغسطس ..؟ حسبتك كنتَ يقظاً آنذاك، ولكني اكتشفتُ الآن أنك دفنتها وأنتَ في غيبوبة، بل دفنتها وأنت ميت .
وأردفتْ .. لم يكن السارين دائي، بل فراق ابنتي كل أدوائي وحتى مماتى، وستظلُّ عاركم ليوم الدين، ولن تفلتوا من العقاب لا الآن ولا غداً .. انتظرتك لأحمّلك وزر ابنتك، انتظرتك انتقاما، الآن أرحلُ لأتركك وآثامك فانتما نظيران لا مثيل لكما
بشار:لا تدعيني لا أستطيع أن أحيا بدونك
جوليا : وتستطيع تحيا بدون ريم ..؟! ما راعيتها قط ..؟ عاشت وتعلم أنك لا تحبها .. عاشتْ مشلولة الجسد يتيمة الأب .. وكان يوم شفائها هو يوم موتها، قالتها والدمع يضعضعها ويرجفها .. أتسمعْ .. كانتْ تنتظر الشفاء، ولكن الموت كان هو الشفاء المنتظر ..!
وسوف تموت سوريا، إما بالحرق أو بالهدم أو بالغرق أو بالتشرد .. وسوف تُرمى صغارها على شواطئ اللئام وفى أحضان الأعداء والشامتين .. سوف تُمزق أشلاءها وتتخطفها الطير مادام فيها أمثالك وأمثال جِهاد .. أخي، أذكّرك وسوف ترى
أبلسَ بشّارٌ ولف الحديث الشجين، وراح يذكرُ ما تحلو له النفس وتطيب
بشار:ألمْ أكن لكِ كالطير السابح في الفضاء آتي بالقوت أيما شئتِ ومتى شئتِ .. ها القصر .. ألم تبصري.
-لعلكِ تذكرين كم ترجمتُ أسطورة جمالك على كل الأسرّة، مَنْ يراقصك الآن أيتها الغزالة النافرة الطاهرة ..؟ يا غزالة الندى وبريق اللؤلؤ وترياق الأسقام
كم تفجّرتْ روحي سديماً بين نهديْك الناعميْن وشفتيْك الحمراوين وردفيْك المنحنيْين، كم كان صوتك الملتذ حُلواً يخترق مكامن شهوتي فيسطو مُستعمِراً كل مفاتنك الحسان ..؟ كم شعشعنى بريق مفاتنك فضربتْ أهدابي فتخبطتْ في عيناى فأُبْلسُ بين مفاتنك تائهاً من أي مفتنٍ ألتمس
ردت عليه بلطمة على وجهه: هذه قبلاتي الآن، فهل تريد المزيد ..؟ ولطمته على الخد الأخر هذه مفاتني، فهل تريد المزيد..؟
لم أجد أحقر منك ولا أبخس يا عار سوريا
في لحظة خروجها تزامن ولوج أخيها عند مدخل الباب وقد علم من البستاني بخبر موت ريم
وكان مفكك الأوصال متقطع الأنفاس دامع العينين وردد قوله “لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً، بل أحياء عند ربهم يرزقون ” صدق الله العظيم”
لطمته جوليا على وجهه، وقالتْ الله بريء منك، وأنا أقول قول ربنا “الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ
وعندما كانت تردد الآية تشير بسبابتها إلى أخيها وزوجها، ثم قالتْ بأس ما تفعلون .. تريدون خلافة على أجساد الأحياء ..!
ثم أمسكته من جانبي ثوب صدره ودفعته إلى جانب زوجها بشّار، ثم قالت بتهكم واستصغار : ربنا يحرسكما من شر كل شيطان وحاسد .. آخذ لكما صورة تذكار ..؟ ثم بصقتْ عليهما وولتْ ظهرها وانتوتْ الانصراف
أمسك خال ريم في أبيها وقال ألا لعنة الله على الظالمين .. تقتلون الأطفال بغير ذنب
بادله بشار بدفعه، ثم لكمه قائلاً أنتم الذين قتلتم الأطفال بالسارين، وأنتم الذين خرجتم على الحاكم الشرعي
وظلا يتبادلان اللكمات التي تحمل الغل الدفين بقلبيهما، غير أن ضربات بشار كانتْ أشدَّ باساً وتنكيلاً، فحاول خال ريم الفكاك من قبضته وجرى تاركاً القصر إلى الشارع فتبعه بشا، التف عامة الناس من الفقراء والضعفاء الأطفال منهم والنساء كي يفضّوا المعركة، لكن السلاح خرج من غمد بشار وأخذ يسدد الطلقات إلى جهاد، غير أنها لم تصبه إلا جِراحاً وأصابتْ الناس فسقطوا صرعىً، والباقي منهم ولى هارباً واختبئ خال ريم في مكان محصن
تركتْ جوليا الجمْع كلهم يتنازعون وخرجتْ إلى الشوارع هائمةً ضائعةً لا تدرى أين تذهب، ولا ترى مكاناً يؤيها، فقد فارقتْ زوجها وأخيها إلى الأبد
ظلتْ هائمة على وجهها، تتخبط في الناس، والناس تتخبط فيها، كلهم حيارى سكارى من فجيعة الحرب.
الكيماوي ينزل من فوق المباني وجدرانها تتهدم من ضربات الحرب، والحقائب تُحمّل على العربات للرحيل، والوداع بين الأهل .. بين مقيم لا ينتوى ترك أرضه ويقول أموت بين أهلي ولا أموت بين الغرباء، وراحل يرى في الرحيل الأمن والسكينة
والسماء كقطع من الليل مظلما، ويتساقط الدمع من عيون القمر .. وترمي النجوم إشعاعات الموت