قــصة / جماجمٌ في أُنوفٍ طائشةٍ
*إبراهيم امين مؤمن
قام دانتي الإيطالي الذي يقطن بجزيرة صقلية وصاحب أكبر مافيا مخدرات في العالم آنذاك بقتل عائلة جاك الأمريكي في أمريكا نفسها، هذا القتل الممنهج والمخطط له والمعفىّ عنه سرّاً مِن قِبلِ السي آى إيه .
لقد كثرتْ هذه العمليات الممنهجة ضد الأُسر الأمريكية في ولايات كنتاكي والاباما وسوث كارولينا ولويزانا والمسيسبي، وأغلبية الولايات صاحبة البشرة السوداء، وخصوصاً لو كانتْ ولايات فقيرة.
هجم دانتي وبعض من رجاله على المنزل القائم بولاية المسيسبي وقتل أُمّه وأُختيْه، وحاول قتل جاك غير أنه استطاع الفكاك والهرب من قبضته .
ولم ينسْ جاك الصبي ملامح دانتي فقد ارتكزتْ في دماء قلبه الفائرة قبل أنْ ترتكز في نسيج خياله.
عشرون عاماً مضتْ
بينما جاك يزور عائلته في مقابر المسيسبي ليلاً، إذ سمع وقع أقدام قادمة على بعد عدة أمتار فتوارى خلف جدار ليتقيهم وليتبين سبيلهم.
وقفوا وسط المقابر، وقال أحدهم ويبدو أنه كبيرهم، قال تبيّنوا مواعيد الوفيات جيداً وانبشوا قبور أموات العشرين عاماً مضتْ، واحضروا لي جماجمهم .. هيا أسرعوا.
ثُم ولّى وجهه ناظراً في أرجاء المقابر، فرأى وجهه، إنه دانتي.
تضخمتْ عضلات قلب جاك وجسده على الفور، وارتسمَ على وجهه ملامح التوحّش والافتراس.
انقض جاك على دانتي ولم يسعف دانتي الوقتُ لخروج المسدس من مغمده، خطفه جاك من يده وقتل به رجاله كلهم .
جثا دانتي على ركبتيه طالباً العفو والمغفرة، لتيقّنه أنه مقتولٌ لا محالة، ولقد دار بخلده أن هذا الشاب من مناصري الشيوعية المتعصبين جداً، كما أنّ دانتي لم يستبعد أن يكون هذا الشاب أحد أقارب ضحاياه، الذين قتلهم أو الذين أخذ جماجمهم.
التفت إليه جاك وعلامات الغضب والتوجع تعبرا عن غريزة انتقام شيطاني
فتّاك..
جاك :هل تذكر جريمتك من عشرين عاماً حيث .. ألم تذكرْ الصبي الذي هرب ..؟
دانتي:لا
جاك :حُقّ لك أنْ تنسى، فجرائمك فاقتْ كل تصور.
حاول دانتي جاهداً أنْ يتذكر عملية قتل فيها أسرة نجا منها صبي، وعندما تذكر قال، جاك لن يفيدك الانتقام، سأمنحك مالاً يجعلك أغنى أغنياء العالم.
لم يعبأ جاك بعرضه، لأن الانتقام هو غايته، بيد أنه يريد أن يعرف لماذا قتلوا أهله وماذا يفعلون بالجماجم.
جاك : لماذا قتلتم أهلي ..؟ ولِمَ تريدون جماجم الموتى ..؟
دانتي:ما الثمن لو أخبرتك بالحقيقة ..؟ عدني بألا تقتلني وأعدك بقول الحقيقة.
جاك : موافق
دانتي :أنا إيطالي الجنسية، تعاونتْ مع إدارتكم “السي آى أيه” من أجل التخلص من الفكر الشيوعي في جزيرة صقلية إبان الحرب الباردة بينكم وبين السوفييت .
كذلك من مهمتنا هو السيطرة على مقاليد الحكم في جزيرتي وإثارة الشعب ضد الحكام الذين كانوا يوالون الشيوعيين ويتصبّغون بصبغتهم.
ومن أعمالنا أيضاً القيام على شيطنة الشيوعية وتجميل الدور الأمريكي الرأسمالي وتجسيده في دور البطل والمُخلِص من براثن الشيوعية.
جاك :ولِمَ
دانتي:لاستعمار بلادنا .
جاك : والمقابل ..؟
دانتي : قال متردداً ومتلجلجاً .. غضُّ طرف إدارتكم عن دخول مخدراتنا الأصلية والمغشوشة في بلادكم و….لجلج ثانية
جاك : وماذا ..؟
دانتي: قتْل بعض فقرائكم السود في الولايات الفقيرة بالأخص والتي يعمها الجهل و…لجلج ثالثة
جاك : لكمه لكمة أدمتْ وجهه ثم قال له وماذا ..؟
دانتي: سرقة جماجم الموتى وطحنها مع بعض الهيروين وتخدير الشعب الأمريكي بها .
جاك: ولذلك قتلتم عائلتي واليوم بعد أن أينعت جماجمهم لصناعة الهيروين أتيتم لأخذها وطحنها وتركها تتطاير في أُنوف طائشة.
لم ينبس دانتي بكلمة وحطّ وجهه إلى الأرض مكْراً ورياءً.
قال جاك الآن أُوفّيك عهدي.
وسأله .. هل تعرف عائلتك لِمَ أنتَ هنا ..؟ في أمريكا ..؟ فأومأ برأسه أي نعم .
فردّ جاك بقوله .. آه يا أنذال يا أولاد الكلب.
وخطف جاك هاتفه الجوال بحنقٍ وأرسل رسالة إلى أهله نصها “زوجتي وأولادي أنا الآن في أمريكا، حيث تعلمون ما أفعل وسوف أُرسل لكم طرْداً
وهو مفاجأة كبري سوف تسعدكم أيّما سعادة، فانتظروه في القصر حتى يأتكم.
جاك : أتريد الوفاء الآن ..؟ نظر إليه دانتي بوجل ورجاء.
الآن .. أوفيك، أنت الطرد سأرسلك إليهم.
نظر إليه دانتي بتعجب ممزوج برائحة النجاة وشحنه جاك .
وصل الطرد لعائلة دانتي في قصرهم الكائن بإحدى جزر صقلية، ذاك الطرد الذي أبلغهم إيًاه برسالة من جواله منذ يومين.
أسرعوا نحو الطرد لينظروا ماذا أعد لهم أبيهم من مفاجأة قال لهم عنها في رسالته أنها ستكون أكبر مفاجآت حياتهم.
فتحوا الطرد فوجدوا دانتي أبيهم ملجم بلاصق راتنجي على فمه ومقطوع الأُذنيْن والأنف والذراعين والقدميْن ومفقوء العينيْن.
سقطوا جميعاً مغشياً عليهم .
جرى أحد الجيران في القصر المجاور على صوت صراخاتهم، فنظر إليهم وبجانبهم صندوق به دانتي فأزال الشريط اللاصق من على فمه فوجد لسانه مقطوع ينزف دماً ويعيا في النطق لعجزه عن الكلام.
اتجه جاك إلى مطار إيطاليا قاصداً الإياب إلى أمريكا بعد أن أنهى مهمته، وهو راضٍ تماماً عمّا فعل، حيث أنه فعل بدانتي ما هو أشرُّ من القتل، وعذب عائلته به التي كانتْ تعيش على أجساد الأموات من المقتولين وأصحاب الجماجم من بني وطنه.
عائلته التي كانت تتنسم الحرية وتستنشق الطيب على رماد جماجم بني وطنه الغلابة السود.
عاد قاصداً القبور، وفي غفوة غفاها رأى جماجماً تغرق في لُجج بحر خضم وانبثق من كل جمجمة منها يدان .
هاتان اليدان تندفعان نحوه من وسط البحر تريد النجاة والخلاص.
آفاق من غفوته ثم انتفضّ من مكانه وقرّر الثورة وفضْح الإدارة الأمريكية وإثارة الناس عليهم .
ثم صرخ صرخة ملأتْ الآفاق قائلاً .. الثورة .. الثورة .. الثورة .
ذهب جاك إلى الصحافة لكي يؤلّبهم على السي آى ايه فقابلوه وطلبوا منه دليلاً، وهذا ليس عجيباً منهم وإنما العجيب أنهم لم يفاجؤوا مما سمعوه منه، لأنهم كانوا على دراية بما تفعله الإدارة الأمريكية من أجل إيقاف المد الشيوعي، ليس في صقلية فحسب، بل في أوروبا وأفريقيا وأسيا على السواء.
ولم يكن معه دليل .. ولكن، العزيمة بداخله أقوى من أي دليل ,تلك العزيمة المتاججه من بوتقة منصهرة انصهرتْ وما زالتْ تنصهر بسبب قتل
الغلابة من بني وطنه وبالأخص السود.
ولم يجد جاك بُدّاً من رسم خطة محكمة للخلاص من هذا المخطط الآثم بين السي آى ايه والمافيا الإيطالية.
وتلك خطته …
نادي في بعض الولايات الفقيرة والتي كانت أكثرهم من السود، ناداهم لاصطحابهم إلى زيارة أهليهم في القبور وقدِ ادعي أنه مرسلٌ من عند المسيح.
ذهبوا خلفه كالنمل حتى إذا أتوْا المقابر قال : أيها الناس من بني وطني، قد جئتُ بكم اليوم لتروا بأنفسكم ما لن تصدقوه بالسمع دون البصر.
ثم نادي فيهم .. من مات له أحد منذ عشرين عاماً فأكثر فليأتني..
فآتاه الكثير فقال لهم انبشوا قبور أهليكم .
فتعجبوا واغتاظوا و ولوْا عنه، ناداهم .. يا قومي .. لن تجدوهم فرؤساؤكم قد أباحوا دماءكم وجمامكم وجماجم أهليكم..
يا قوم .. السي آى ايه على اتفاق مع مافيا المخدرات في صقلية لاستباحة دمائكم وموتاكم للمافيا مقابل أنْ يعاونوهم على إيقاف المد الشيوعي فيها، تلك الحرب الباردة لم تكن باردة عليكم، بل إبادة أحيائكم وموتاكم.
بدا القوم يرون في كلامه شيء من الصدق .. فنادى أحدهم .. لن نخسر شيئاً لو فتحنا قبرين أو ثلاثة .
فتحوا القبور فوجدوا معظمها فارغة من الجماجم ..
قام بالتصوير ومعاينة الموقع وملابساته كل وكالات الأخبار وخاصة “نيويورك تايمز”، “واشنطن بوست” لوس انجلوس تايمز”
وفى صباح اليوم التالي صدرتْ الصحف تكبُّ جامّ غضبها على النظام الفيدرالي كله .. وقد تصدّرتْ الصحف الأمريكية عناوين وصوراً حول الحدث برمته من البداية إلى لحظة كشف الحقيقة جلية، وكانت معظمها عناويناً وصوراً ساخرة.
عناوين : المؤامرة السوداء – وحش التفرقة العنصرية يلتهم السود – جماجم الآباء في خياشيم أُنوف الأبناء – الشعب الأمريكي يأكل نفسه – رقصات الأبناء على ملهى آبائهم -أرواح الأموات تستعمر أُنوف الأحياء – الأموات تحيا لتتحد مع الأنوف – الهيروين والجماجم – لابد من محاكمة كل من ضلع في تلك المؤامرة الخسيسة.
عنوان هام : لابد من الثورة وقلب النظام بأكمله
ومن الصور: صورة لرجل أسود يشم جمجمة والده ويتلذذ -الولايات المذكورة في صورة تعلوها علامات المقابر ومدون بها، هيا تعالوا إلى الكيف – جماجم يطأها دانتي وفي إحدى يديه دولارات والأُخرى حفنة هيروين .. إلخ.
تعاطف البيض لأول مرة مع السود واعتصموا، واصطفَّ الشعب الأمريكي كله منادياً بشعارات ثورية تطالب بقلب نظام الحكم كله ومحاكمة المسؤولين عن هذه المهزلة .
قامتْ الشرطة بالقبض على مثيري الشغب وإيداعهم في السجن كي يرتدع باقي الثوار .
كما تم إلقاء القبض على جاك وإيداعه في مستشفى الأمراض العقلية .. قالتْ السي آي ايه أن جاك يعانى من اضطرابات نفسية حادة من صغره، ولقد وافدتنا أخبار من الأطباء النفسيين كلهم بذلك .
بعد إيداعه بيومين وُجِد َمشنوقاً في حجرته، وتصدرتْ الصحف خبر انتحاره وتلقاه الناس للأسف ما بين مصدق ومرتاب.
قُتل جاك في محبسه النفسي شنقاً واُدُعِىَ عليه بالجنون لدرء الشبهة عنهم وتلميع صورة السي آى ايه.
********
*قاص مصري .. القصة من خيال القاص ولا علاقة لها بالواقع