*إبراهيم أمين مؤمن
ديكتاتورية الثوار
إن الثورة تمرّد بشري غوغائي على الرؤساء والملوك .. تمرّد البروليتاريا على الأرستقراطية .. تمرّد ثوري من أجل التحول إلى وضعٍ أفضل، فإذا نجح تمردهم أقاموا دولتهم ومرروا دستوراً جديداً يقضي بالاستيلاء على أموال النبلاء وأصحاب الأراضي وتوزيعها عليهم تحت مظلة العدل والمساواة، كما حدث في الثورة البلشفية، علاوة على تبرّأ الثورة من ديون الدولة الخارجية .
أنظر إلى الفاشية، فرغم أنه مذهب استعماري توسعي وغطرسة وطنية، فإنها بلا شك مذهب أفضل لمواطنيه، إذ أنه يحافظ على الملكية الفردية تحت نظر دولتهم علاوة على توجيههم .. والحل في القول المأثور”من أين لك هذا ” فهو الحل الجذري لمسألة النظام الإقطاعي الحديث، هو العدل الذي يجب أن تتبناه كل الأنظمة، والثورة التي يجب أن تطالب بها الطبقات الكادحة .. ذلك، لأنها تحافظ على ملكيتهم الفردية من المصادر المشروعة والتحفظ على الأموال الغير مشروعة، وهذا يؤدى بدوره إلى إحداث توازن اجتماعي سليم.
كلمة تضمن للشرائح الاجتماعية كلها التعايش في سلم جنباً إلى جنبٍ، لأنها تُحدث تقارب اقتصادي بينهما إلىَ حدٍّ ما .. لكن، النفس الثورية التي تطالب بالمساواة نفس طامعة غير راضية، وإني أؤمن أن النفس الثورية ما تثور من أجل الاستبدادية الثلاثية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية فحسب، بل أؤمن أيضاً أنها هي التي تثور أيضاً من أجل السيادة والزعامة أيضاً.
وليس أدل على كلامي من الثورة الفرنسية (1799-1789 ) التي ما استتب الأمر لديها بعد معارك دموية وتصفية الثوار بعضهم بعضا على نصل مقصلة غالوتين، إلا سار ما تبقى منهم بعد ذلك إلى التوسع الاستعماري .
فها نابليون أسس الإمبراطورية الفرنسية الأولى معلناً نفسه أمبراطوراً عليها ليستمر في حروبه ويجعل أوروبا كيانات خاضعة له، ولم تنج مصر من حملته التوسيعية سنة (1798-1801م).
ومنطقي أنا أن الثوار هم الثوار، إما لدفع مضرة أو جلب منفعة، فهم عندي “الثائرون دائماً”، فهذه هي تركيبتهم الجينية .
وبالنظر والتأمل إلى الثورات الشعبية العربية منها والأجنبية، نجد أنها ما أطاحتْ بنظم الحكم إلا وتقاتلتْ بسبب اختلافات أيديولوجياتها التي تتبنى دائماً حيازة السيادة والحكم وفرض المذهب على الآخر .
انطلاق الفوضى مع الثورة
إن أسباب الثورة دائماً تكون مرتكزة في رحم الفقراء والطبقة الكادحة المسماة اصطلاحا بالبروليتاريا وقليل من الطبقة البرجوازية، ولكنها لا تولد وتنمو وتتضخم إلا بوقوع حدث مؤثر من أفراد الطبقة المؤطرة الكادحة .
والمتدبر في شؤون الثورات العربية والعالمية يلحظ ذلك، فنجد مثلا في ثورة الياسمين التي اندلعتْ أحداثها في 17 ديسمبر 2010
تضامنًا مع الشاب محمد البوعزيزي الذي قام بإضرام النار في جسده في نفس اليوم تعبيرًا عن غضبه على بطالته ومصادرة العربة التي يبيع عليها من قبل الشرطية فادية حمدي .
وإذا عدنا إلى الوراء، حيث الثورة الفرنسية، نجد أنّ اقتحام سجن الباستيل في الرابعة عشر من يوليو لسنة 1789، وقتْل مأموره وتحرير سجنائه كان يمثل نقطة انطلاق قوية لإحداث تغيير راديكالى كامل من خلال ثورة عارمة لاحقة .
في النموذج الإيراني، نجد أن انتهاج الدولة آنذاك لسياسة التأوْرُب المتوسع جثم على صدور الشعب، مما أحدث صراخاً مفاده اندلاع الثورة الإيرانية سنة 1979 لتقويض نظام الشاه برمته.
إن الثوار لغتهم الصراخ والفوضوية، هذا الصراخ المتولد من الضغط الفسيولوجي واستبدادية حكامهم، والصراخ يجر جريان مطالب عشوائية غير مدروسة، وهذا طبيعي لأنها تأتى فجأة، وتنطلق كالبرق بينما يقف النظام مشدوهاً ولا يجد سبيلاً لتكميم الأفواه أو الحد من نبرتها إلا الأساليب القمعية .
وللأسف، فإن مثل هذه الهبّات الفجائية صيرورتها الفوضوية لأنها تنطلق من رحم مطالب طوباوية والتي يستحيل فيها النظام تلبية تلك المطالب، علاوة على مسارها الفاشل بسبب عدم وجود رؤوس لها .
وهذه أقوال بعض المفكرين في شأن الثورات .. نجد نيتشة ظهر خلال فترة الثورة الفرنسية وما بعدها، ويرى أن الثورة هي انفجارات شبه بربرية خارجة عن السيطرة وانفعالات جماهيرية مدمرة .. وأيضا كل من برودون وكروبوتكين يتبنيان مذهب فوضوية الثورات.
وإني أنصح الثوار بضبط النفس، وتقديم بروتوكولٍ يُحدد فيه مطالبهم الإصلاحية من النظام نفسه لا من نظام آخر بواسطة رجال يثقون في أمانتهم وقوتهم، ولا بأس بالحركة السلمية، بدلاً من الثورة.
وأنصحهم كذلك، أن لا تُحدّق أبصارهم في ثورات البلاد الأخرى فلكل بلد ظروفه، فقد تكون تلك الرياح الواردة من الخارج ريحًا سموماً على بلدهم.
عوامل الهدم والبناء فى الثورة
أولاً : تأثير الجيش في الحركات الثورية
تبدأ الثورة بالصراخ المصحوب بمشاعر الغضب والتشدق بمطالب طوباوية عريضة، وهذه مرحلة فاسدة تقوم على مقاييس فاسدة، و وجب على النظام حينها التعامل معها بكل السبل التي تؤدى إلى الحوار السليم حتى تضعف الثورة وتقوى حجة النظام، وغالباً تستمر الثورة تلك في مطالبها، سواء قوبلت بالوسائل السلمية أو القمعية .
وبالنظر إلى الثورة، نجد عوامل تؤثر عليها، فمثلاً وقوف الجيش ضد الثورة يُنذر بشر مستطير، وعندها لا أجد مخرجاً إلا بالكف عنها، كذلك أيضا الكف عن المسيرات الاحتجاجية السلمية، واستبدال هذا كله برفع مطالبهم عن طريق فئة منهم أو عن طريق إعلام معارض للنظام إلى الجيش نفسه.
أمّا لو أقر الجيش الثورة فيجب على النظام نفسه تلبية جميع مطالب الثوار ما دامت منطقية، حتى ولو كان مطلبهم رحيل النظام، حيث أن الجيش من المفترض أن يكون مؤسسة مستقلة عن الحكم، وليس له مصلحة في تقليد حاكم أو عزله.
ولو وقف الجيش على الحياد، فلا بأس من امتداد المد الثوري، ويجب أن يستجيب النظام عن طريق القيام بإصلاحات منطقية وثورات العالم الأجنبي والعربي خير برهان على ذلك .
فلننظر مثلاً إلى النموذج المصري، فهو نموذج مزدوج، حيث وقف الجيش مع ثوار 25 يناير 2011 فنجحتْ الثورة، وعندما وقف ضد المسيرات الاحتجاجية والاعتصامات في رابعة والنهضة سنة 2013-2014 باءتْ تلك بالفشل، و نجم عنها آلاف الضحايا بعد فض اعتصاميي رابعة والنهضة،علاوة على سفك الدم بعد ذلك الناجم من المسيرات والاحتجاجات في الشوارع.
وفى النموذج السوري : فى 25 أبريل 2011، انضمَّ الجيش لقوات الأمن للمرة الأولى مع حصار درعا، والمعضمية في ريف دمشق؛ ألحقها في 3 مايو ببانياس .. كذلك وقف الجيش بجانب بشار الأسد فى 3 يونيو، ثم حاصر وضرب الثوار في إدلب وحاصر جسر الشغور وتمركز في سهل الغاب وجبل الزاوية، وظل الجيش يساند النظام حتى أسرف النظام في سفك الدماء بطريقة وحشية، فنجم عنه انشقاق بعض قيادات الجيش، فزادتْ الثورة دموية، واشتعل الصراع أكثر وأكثر ولاسيما بعد تدخل القوى العربية والأجنبية بين مؤيد ومعارض، مما زاد من عالميتها وكأننا في حرب عالمية ثالثة على بقعة سوريا الشقيق.
تلك الثورة التي خلّفتْ خلال النزاع في سوريا قتلى تجاوز حتى الآن نصف مليون قتيل ومليوني جريح، بالإضافة إلى أكثر من 5 مليون لاجئ وأكثر من 6 مليون نازح في الداخل.
أمّا النموذج التونسي 17 ديسمبر2010 فقد وقف الجيش موقف المتفرج المترقب حتى شاهد بنفسه انتصار الثوار الذي لم يفلح الرئيس بن على في وأدها، فقد كان موقف الجيش مائعاَ إلى حدٍ كبير، رغم رفضه لأوامر الرئيس بن علي القاضية بمشاركة الجيش في مواجهة الاحتجاجات إلى جانب قوات الأمن، وكان رفض قائد جيش البر رشيد عمار لأوامر بن علي بمثابة نهاية لحكم الأخير للبلاد.
ومن الثورة الروسية 1917 نجد أيضا وقوف الجيش بجانب الثورة البلشفية، انضمت القوات المسلحة للعمال، الجنود الذين تم إرسالهم من قبل الحكومة لقمع أعمال الشغب كثير منهم انضموا إلى المتظاهرين وأطلقوا النار على الشرطة، مع هذا التفكك انهارتْ فاعلية السلطة المدنية .. قدمتْ الحكومة استقالتها إلى القيصر الذي اقترح دكتاتورية عسكرية مؤقتة، ولكن قادة المؤسسة العسكرية الروسية رفضوا هذه الدور.
وعندما وصل القيصر إلى العاصمة، اقترح قادة الجيش و وزرائه المتبقين تنازل القيصر عن سلطاته وعرشه، وفي اليوم التالي ألقي القبض على القيصر.
ومن الثورة الفرنسية (1799-1789) كان أكثر الجنود من الطبقة البرجوازية والفقراء، وكان معظم قادتهم من طبقة النبلاء، مما صعّبَ عليهم السيطرة على الجيش، ولم يكن للجيش دور فاعل في الثورة إذْ أنّ الثورة قامتْ بدونهم ولم يجد الملك أي سبيل في استخدام الجيش لمنع سقوط الملكية وقمع الثوار، بل إن الجنود كانوا يتمردون على قادتهم، بل هاجموهم، مما تسبب في رحيل أكثر الضباط وترك البلاد، ويتبين من ذلك أن الجيش كان جزءاً من الثورة بحكم غالبية طبقتي البروليتاريا والبرجوازية فيه.
ثانياً: تاثير إنقسامات الفئات الثورية وحركة الثورات المضادة
أنظر إلى النموذج الفرنسي: من ضمن العوامل الفاعلة في الثورة أيضاً انقسام النخب الثورية بسبب اختلاف الأيدلوجيات وتبنّى مسألة الحكم للأقوى والأكثر عدداً.
وفي مارس من عام 1793 اندلعت ثورة للفلاحين في فيندي غربي فرنسا وسرعان ما اتسمتْ بصفة الثورة المضادة ومناصرة الملكية بزعامة الجيش الملكي الكاثوليكي، مما حدّ من حركة الثورة الجمهورية.
عهد الرعب (1794-1794 ) بدأت حملة بقيادة روسبير لإبادة جميع المعارضين لمسار الثورة. واتسمتْ هذه المرحلة بالتطرف الهائل والدموية الفظيعة، حيث أُعدم العديد من القيادات 40 ألف فرنسي أُعدموا على المقصلة غالبيتهم من الفلاحين والعمال. ومن الذين أُعدموا أيضاً كان مناهضو روسبيرفي المؤتمر الوطني أمثال قيادات الجيرونديين.
النموذج التونسي: فقد استتبَ الأمر فيها إلى حدٍ ما، ولكن الدولة العميقة حتى الآن تعمل جاهدة لاستعادة النظام القديم بثورة مضادة.
هي عناصر غامضة من الداخل ومدفوعة من الخارج لاستنهاض الثورة المضادة، لعل من أهمها بعض بارونات الحكم السابق وحزب التجمع الدستوري المنحل وجماعات سياسية يمينية ويسارية متطرفة.
ولعل المفارقة أن يستغل قادة الثورة المضادة جهل الشعب وضعف الوعي الثقافي لديه، ولاتزال هناك أجهزة إعلام رسمية وخاصة مملوكة لأتباع الرئيس المخلوع “بن علي” تقوم على تحبيط الشباب واستعادة النظام القديم.
ثالثا وضع الدستور
من الطبيعي أن تكون المرحلة الأخيرة من الثورة، وإنْ واكبها صعوبات أثناء إقراره بسبب اختلاف أيديولوجية الثوار .. ومن المعضلات الرئيسية أن تكون مؤسسات الدولة أساس النظام القديم، ولا أجد حلاً جذرياً لهذه المعضلة إلا عن طريق مناصري الثورة الذين يعملون في تلك المؤسسات واتخاذهم دليلاً في التخلص من الفاسدين بالعزل دون القتل .
والمعركة لن تنتهي إلى هذا الحد، فما زال السوس ينخر في عصب دولة الثوار عن طريق المسؤولين المنافقين الذين ما زالوا يتقلدون المناصب الحساسة فى جسد الدولة، ومن خلفهم الحانقين الذين تم عزلهم من مؤسساتهم لفسادهم، وكذلك الدولة العميقة التي تحاول العمل على تحريض الشعب للقيام بثورة مضادة .
واعلموا أن الدنيا لا تستقر على حال، فجيل الثوار لن ينتهي مطلقاً وما ثار اليوم سيُثار عليه غداً في الأزمنة المتعاقبة.
وأخيراً، أقول أن الثورات ما هي إلا أنظمة بشأتْ بعد رحيل أنظمة بادتْ، ديكتاتورية الحكام ذهبتْ لتحل محلها ديكتاتورية البروليتاريا، بروليتارية أمس وحكام اليوم، ثم تأتى برولتيارية أخرى تثور عليهم .. فالثورات هي إمبريا لية استعمارية، ولكنها استعمرتْ شعوبها من حكامها .
فحاذروا من الثورات لأنها بحور من الدماء، وتحدّقُ في وجه الفناء.
* روائى وشاعر مصري