صناعة الإثارة و السبق الصحفي
*محمود عياش
عاجل أفادت مصادر مطلعة عن إلقاء القبض على …”
خطير مداهمة مخبأ سري …”
حصري تمكنت جريدتنا من الحصول على وثائق بالغة الحساسية، تهم أشخاصا نافذين في …”
هكذا أصبحت الكثير من مواقعنا الإلكترونية تطالعنا بمثل هذه العناوين المثيرة و المحدثة لزوبعة من الإثارة، والهادفة إلى خلق دفق من التشويق، و دفعنا إلى الإسراع في قراءة الخبر مستغلة فضولنا، و الذي قد لا يكون فضولا معرفيا في كثير من الأحيان، بقدر ما هو حب استطلاع لحظي، يتبخر لحظة انتهائنا من قراءة الخبر ..
تتسابق الكثير من المنابر الإعلامية على الأخبار والفضائح والإشاعات التي تجد جمهورا عريضا، تزداد قاعدته أتساعا يوما بعد آخر، و متلهفا لتلقف الخبر دون التأكد من صدقيته، وهو أمر تتقاطع معهم فيه العديد من الوسائط الإعلامية والتي لا تتكبد أدنى عناء للتحري عن صحة الخبر.
للقصة بداية يجهلها الكثيرون والعارفون بها لا يبذلون الجهد الكافي لكشفها و إطلاع الرأي العام عليها، الحكاية ببساطة، إنهم يريدون صناعة إنسان وفق قوالب جاهزة، همه الأساسي إشباع غرائزه و شهواته، إنسان استهلاكي بامتياز ..
القصة ابتدأت مع نهاية الحرب العالمية الثانية و صراع الاستقطاب بين معسكرين متنافرين إيديولوجيا، متقاربين استراتجيا، همهم الأوحد الهيمنة و الاستحواذ على مقدرات العالم و التحكم في مصائر الشعوب و الأمم.
كان سلاحهما الفتاك الإديولوجيا المسنودة بالفكر، إما اشتراكيا أو ليبراليا، و التي توزع هواها مابين الشرق و الغرب.
في هذه الفترة ظهر مفكرون و منظرون إيديولوجيون و ساسة كثر، همهم الأساسي السيطرة و بسط النفوذ بحثا عن القوة و الاستفراد بالموارد و حشد رأي عام داعم و تابع، و لعل من أبرز ما لخص هوس التحكم في تلك الفترة هو كتاب الفيلسوف الألماني إيريك فروم -أحد رواد مدرسة فرانكفورت- المعنون ب “الإنسان المستلب”،هذا المنجز العلمي دعا فيه إلى خلق غزارة في الإنتاج على مختلف مستويات الحياة الإنسانية، و تشجيع الاستهلاك إلى أقصى درجاته و تخفيض الأسعار إلى أدنى مستوياتها، لتكون المحصلة النهاية، و في الأخير إنسان استهلاكي بامتياز.
اليوم نجد إنسانا متلهفا إلى إرواء نزواته و إشباع غرائزه إلى حد التخمة و بأزهد الأثمان و أقل مجهود.
لذا بات الهم الكبير لنا الانسياق وراء كل جديد وغريب و مثير، هكذا أصبحت صحافتنا تتفنن في مباغتتنا بالصور المثيرة والعناوين المنمقة بعناية، وفي أحيان أخرى اختلاق أحداث و سرد حكايات تتميز بالغرائبية و ذات خيال جامح و طافح بالواقع.
هذا المنتوج الإعلامي الذي يكون فيه حضور قوي للإثارة، ويكون متبلا بالكثير من المؤثرات الصوتية و المرئية، يلقى متابعة واسعة، رغم بعض حالات الاستهجان التي تسجل من حين لآخر، لكن حدتها تبدأ في الخفوت بفعل حالة التطبيع مع هذا المنتوج و الذي تزداد دائرته أتساعا.
شئنا أم أبينا، اتفقنا أم اختلفنا، هذه السلعة الإعلامية تلقى رواجا و متابعة كبيرتين، وقطر إشعاعها يزداد تمددا يوما بعد أخر، و منسوب مناعة مجتمعاتنا بدأ في النفاذ إمام هذا الغزو الثقافي والإعلامي و الاقتصادي الجارف لقيمنا و ثقافتنا .. لنجد أنفسنا في نهاية المطاف، أننا قد وقعنا ضحية استعمار جديد و تبعية مذلة نتائجها ستكون كارثية لا محالة.
*عضو الأمانة الجهوية للنقابة المستقلة للصحافيين المغاربة – العيون