مجادلة علمانيين ( تــابـــع )
الدكتور الصديق بزاوي
التجربة التاريخية
بعد وفاة الرسول عليه السلام تبلورت الدولة الإسلامية الحديثة كوحدة لاينفصل فيها الشأن الديني الدعوي عن الشأن السياسي المالي والدفاعي والتنظيمي .. وقد توفرت لهذا الكيان السياسي النوعي مستلزمات الدولة بمعناها القانوني الحديث والذي يتطلب ثلاثة عناصر أساسية وهي: السلطة المركزية والوطن و الشعب، فالوطن تمثل في المدينة المنورة وامتداداتها االجغرافية والأراضي التي تواجدت فيها القبائل التي اعتنقت الإسلام وتحالفت مع المسلمين .. وقد امتد هذا الوطن ليشمل الجزيرة العربية والأقاليم التي تسارع فتحها والتي تواجدت في القارات الأسيوية والإفريقية والأوروبية، وبلغت أقصى امتدادها في عهد الأمبراطورية العثمانية .. أما الأمة فقد شكلها المسلمون الذين تضاعف عددهم بعد أن كانت تتكون فقط من المهاجرين والأنصار والأقليات اليهودية والقبائل العربية التي دخلت في حلف الرسول صلى الله عليه وسلم .. وأما السلطة المركزية فقد كان علي رأسها الخليفة الذي مارس وظيفته السياسية والدينية بشكل متلازم مستعينا بنخبة من المسلمين، وقد كان من الطبيعي أن تتأثر دولة الخلافة بالدول المجاورة لها وأن تنهل من حضارة عصرها، فقد استفادت من تجارب الفرس والبيزنطيين، فأحدثت الدواوين وعينت الوزراء والكتاب وأحدثت الأقاليم وعينت الولاة والقضاة، ونظمت الجيوش شأنها في ذلك شأن باقي الدول التي عاصرتها، مع وجود فارق أساسي وهو وجوب الانضباط للشريعة الإسلامية بالالتزام بثوابتها والإجتهاد في فروعها ومقاصدها التي لخصها قول أحد صحابة رسول الله عليه السلام والذي جاء فيه : “إخراج الناس من عبادة الناس إلى عبادة الله، ومن ضنك الحياة الى سعتها،” الشيء الذي أعطى للدعوة الإسلامية طابعا إنسانيا عالميا، وبالفعل فإن هذه الدولة الإسلامية لم تكن تكتلا إقليميا فحسب، وإنما تكتلا عابرا للأمصار والأوطان والقوميات والألسن والأعراف والطبقات الاجتماعية وغيرها، لافرق فيها لعربي على أعجمي و لأبيض على أسود أو أصفر إلا بالتقوى .. وبهذه الإنجازات تمكن المسلمون من إرساء نموذج فريد للحكم، يقوم على أساس عقائدى وليس على أساس نفعي فقط، عكس ماكان عليه الأمر في الإمبراطوريات غيرالمسلمة التي أبادت الشعوب والحضارات، ونهبت الخيرات وأفقرت الأهالي لالشيء، إلامن أجل المنافع المادية وفرض الهيمنة والحفاظ على الامتيازات .
ورغم تاكيدنا للطابع الشمولي للإسلام، ولكونه سياسة ودين، فإننا لا نعني أن مصادرالشريعة تتضمن نظريات حاهزة للحكم والمؤسسات والقوانين الدستورية، لأن الدين نفسه لا يقبل أن يقلص نفسه في دولة وسلطة، ولذلك لم يتضمن القرآن ما يفيد بصورة واضحة تفصيلية القواعد السياسية الجاهزة الكفيلة بتنظيم الدولة وتنزيل قواعده الاصولية على الواقع، كما أنه لا يمكن للنبوة أن تتحول ببساطة إلى زعامة أو قيادة سياسية، لأنها ليست مرتبطة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنها دعوة شاملة عالمية مستمرة عبر القرآن والحديث .. وتجدر الإشارة أيضا إلى أنه إذا كان الحكام قد ساسوا الدنيا بالدين، فإن تلك السياسات لاتخلو من هفوات وانحرافات، ولا ينظر إليها على أنها مقدسة، وإنما يجب النظر إليها على أنها مجرد اجتهادات قام بها أشخاص غير معصومين، تتجاذبهم نزواتهم ومصالحهم الخاصة و ميولاتهم العصبية شأنهم في ذلك شأن كل البشر. وانطلاقا من هذه الحقيقة يكون المطلوب من المهتمين بالموضوع تنقية هذا التراث السياسي من الشوائب وتجديده باستمرار لإغناء الحضارة الكونية بوحي العليم القدير.
ورغم استناد مقولة ( الإسلام دين ودولة .) على نصوص من القرآن والسنة النبوية وعلى أدلة تاريخية، كما سبق أن أوضحنا، فإن بعض المهتمين بالموضوع والمحسوبين على علماء الأزهر، نفى مع الأسف كون الدين يهتم بالسياسة إلى جانب العقيدة و العبادات، ويتجلى ذلك فيما أورده في مؤلفه الذي جاء فيه ما يلي :
” لم يبق أمامك بعد الذي سبق، إلا مذهب واحد وعسى أن تجده منهجا واضحا، لا تخشى فيه عثرات، ولا تلقى عقبات ولا تضل بك شعابه ولا يغمرك ترابه، مؤمون الفوائل، خاليا من المشاكل. ذلك هو القول بأن محمدا صلى الله عليه وسلم، ما كان إلا رسولا لدعوة دينية خالصة لدين لا تشوبه نزعة ملك ولا حكومة . وأنه صلى الله عليه وسلم لم يقم بتأسيس مملكة بالمعنى الذي يفهم سياسة من هذه الكلمة ومرادفاتها . ما كان إلا رسولا كإخوانه الخالين من الرسل، وما كان ملكا ولا مؤسس دولة ولا داعيا إلى ملك .”(11)
أما القول بان الرسول صلى الله عليه وسلم ماكان ملكا ولاداعيا الى ملك، فأمر لا يقبل الجدال ولم يقل أحد بخلافه، ولا يوجد في القرآن الكريم ما يفيد بصورة واضحة أن الدعوة الإسلامية دعوة إلى إنشاء دولة أو ملك أو امبراطورية بالمفهوم السياسي المتعارف عليه اليوم، والنبي الكريم رفض رفضا قطعبا ماعرضته عليه قريش من توليته ملكا عليهم مقابل التخلي عن تبليغه رسالة الوحي الالهي، غير أن التسليم بهذه الحقيقة لايعني أن الشريعة الإسلامية لا تهتم بالسياسة ولاتتضمن ضوابط وأحكام تتعلق بتدبير أمور المسلمين العامة وأنها تدع (قيصر) يفعل ما يريد، وإنما تحدد قواعد وتضع ضوابط للعمل السياسي و تفرض الخضوع لها. وذلك ما تؤكده الممارسة السياسية من طرف النبي الكريم والخلفاء الراشدين من بعده، كما أوضحنا سابقا- وقد عرف ابن خلدون السياسة بكونها ” حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوالها ترجع كلها عند الشرع على اعتبارها مصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة من صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا ..” ويضيف العلامة قائلا –” ولما كانت حقيقة الملك أنه الاجتماع الضروري للبشر … وجب أن يرجع في ذلك إلى قوانين سياسية مفروضة يسلمها الكافة وينقادون إلى أحكامها، فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء وأكابر الدولة وبصائرها، كانت سياسة عقلية، وإذا كانت مفروضة من الله شارع يقررها ويشرعها كانت سياسة دينية نافعة في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وذلك أن الخلق ليس المقصود بهم دنياهم فقط. فالمقصود بهم إنما هو دينهم المفضي للسعادة في آخرتهم … فجاءت الشرائع تحملهم على ذلك في جميع أحوالهم من عبادة ومعاملة حتى في الملك الذي هو طبيعي للاجتماع الإنساني على منهاج الدين ليكون الحل مخطوطا بنظر الشارع، لان الشارع أعلم بمصالح الكافة فيما هو مغيب عنهم من أموره، وأعمال السياسة إنما تطلع على مصالح الدين فقط .” (12 )
نضيف إلى هذا الموقف الذي توصل إليه (مؤسس علم الاجتماع وعلم التاريخ العلامة (ابن خلدون) ، أن طبيعة الحياة نفسها تؤكد على أن السياسة جزء من الإسلام، وأنها لا تقبل التجزئة، وكل تجزئة له تظل مصطنعة وغير واقعية .
نستخلص مما سبق أن الطابع الشمولي للإسلام أمر تؤكده النصوص الشرعية والتجربة التاريخية للدولة الإسلامية وطبيعة الحياة البشرية نفسها، وأن فلاسفة الإسلام وعلمائه لم يطرحوا قط مادية العلم منفصلة عن الألوهية وذلك كابن رشد والفرابي، وهذا ما يؤكد أن وباء فصل السياسة عن الدين قد تسرب إلى المجتمعات الإسلامية من خارجها ولم تشتد حدته إلا في الوقت الحاضر، حيث ظهرت أصوات هنا و هناك تنادي بالعلمانية يتزعمها مثقفون ثقافة غربية، وأن الغريب في الأمر هو أن تصدر هذه الدعوة ولو بشكل محتشم من طرف صاحب المقالة التي نحن بصدد التعقيب عليها وهو أزهري. وحسنا فعل عندما تدارك (رحمة الله عليه) خطأه وتراجع عن موقفه الشاد، حسب علمنا. ونرجو أن يكون ذلك التراجع قد تم عن اقتناع. وبناء على أدلة وحجج علمية موضوعية لا أن يكون مجرد مجاملة أومن باب ترويج الشائعات أونتيجة الضغط الذي تعرض له من طرف علماء الأزهر الذين أجمع عدد منهم (أربعة وعشرون عالما من هيأة كبار العلماء) على إخراجه من زمرة العلماء ومحو اسمه من سجلات الجامع الازهر سنة 1925. وذلك لكون ماادعاه من عدم وجود ي علاقة بين الإسلام والسياسة ولابين هذه الأخيرة والنبي محمد عليه السلام، لايستند إلى برهان شرعي كما هوالمطلوب من علماء الدين في مسائل استنباط الأحكام أو مجرد الإدلاء بآراء في مئل هذا الحجم – ونعتقد أن سبب هذه الهفوة قد يرجع فقط، إلى كون حجم المادة السياسية في الشريعة الإسلامية ضئيل قياسا مع أحكام الإرث والزواج والنفقة والقصص وآيات الكون وغيرها، لكنه رغم الوجود النسبي للأحكام السياسية في القرآن والسنة من حيث الكم فإن مضامينها تشمل قواعد كلية كفيلة بتأطير العمل السياسي وآلياته. وهذا الامر لن يتحقق بطبيعة الحال إلا بتضافر الجهود من طرف أهل الخبرة وأهل الذكر من ذوي النيات الحسنة .
بعد هذا التوضيح، لا نستبعد أن العلماني قد اقتنع بكون الإسلام يشمل بالفعل أحكاما كثيرة تتعلق بالمجال السياسي، لكن العناد أحيانا والاستكبار أحيانا أخرى، يحجبان الحقيقة . الشيء الذي يدفع البعض إلى محاولة إيجاد مبررات قصد فصل السياسة عن الإسلام. وفي هذا الإطار، نادى أحد العلمانيين لغرض في نفسه، بتسخير( الاجتهاد) قصد إبعاد السياسة عن الدين. وقد قال في هذا الصدد: “رسالتي إلى هذا التيار (يقصد التيار الإسلامي في العالم العربي) هي : ابحثوا لنا عن اجتهاد جديد … لو اجتهدتم في شرع الله لوجدتم ما يؤيد فكرة وجود حكومة محايدة أو علمانية، لا يمكن أن تكون الدولة في الوطن العربي سوى وطنية و ديموقراطية و علمانية .”
إن هذه (الرسالة) تعتبر إقرارا بأن العلمانية تفتقد إلى سند شرعي، وأن على المسلمين أن يبحثوا، بل يبتدعوا هذا السند بواسطة ما سماه أحد دعاة العلمانية (اجتهادا). وقد نسي أو تناسى أن لا اجتهاد بدون شرع. وأن الاجتهاد ماهو إلا استنباط أحكام غير منصوص عنها من نصوص شرعية، باعتماد آليات فقهية من قياس وغيره. وسيأتي الحديث عن الاجتهاد في الفقه الإسلامي في فقرة لاحقة .