مجادلة علمانيين (تـــابـــع)
الإ سلام لاشأن له بالسياسة
يرى العلمانيون أن العلمانية نظام سياسي كوني بعيد عن تأ ثير أو تدخل أي دين مهما بلغ شأنه. ولا يسع لكل دول العالم إلا أن تعتمده. وأن الفكر الديني، بما فيه الفكر الاسلامي، لايملك القدرة على تنظيم الدول. لامن الناحية السياسية والإقتصادية فقط، وإنما من الناحية الاجتماعية والثقافية كذلك، لأن هذه المهام حسب زعمهم، يجب أن توكل لفئات لها صلاحيات ولها مؤسسات وعندها حرية الراي —وقد عبر أحدهم عن هذا الموقف بما يلي :
“إن العلمانية بالنسبة لي ليست فرنسية ولا إنجليزية ولا أمريكية .. نحن لا نتبع أي نموذج، الأساسي هو المبادئ العامة .. العلمانية التي هي كونية وهي فصل الدين عن الدولة … يجب أن تكون هناك فئات لها صلاحيات ولها مسؤوليات وعندها حرية في الرأي في كل هذه الميادين (الاقتصادية والسياسية والثقافية) والفكر الديني لا يمكن أن يعبئ كل نشاطات المجتمعات ويغطيها… “
إن القول بأن العلمانية نظام كوني قد لايعارضه أحد إذا كنا نقصد بكونية العلمانية أنها نظام سياسي يعم معظم دول العالم الذي أرغم جله على اعتماد هذا النموذج في تسيير الشأن العام، سواء بشكل مباشرأو غيرمباشر. وكما سبقت الإشارة، فقد ظهرت العلمانية في أوروبا كبديل للنظام الكنيسي ثم انتشرت – بشكل أو بآخر- في جميع القارات، نتيجة هيمنة الغربيين العسكرية والاقتصادية والسياسية وتسويق نموذجهم الحضاري وفرضه على العالم المستضعف .. كما أن آليات الحكم في النظام العلماني تعد من ثمارماتوصلت إليه البشرية بمختلف توجهاتها وانتماءاتها العقائدية، وذلك لكون الحضارة بجميع مجالاتها تعتبر ملكا لكل شعوب العالم مهما بلغ حجم مساهمة كل منها .. أما إذا كان العلماني يقصد بالطابع الكوني للعلمانية إلزامية الشعوب باعتماد النظام العلماني وفصل الدين عن الدولة، وهذا هو الأرجح، فإن ذلك أمر غير مقبول لأنه نوع من فرض الهيمنة والاستبداد وإقصاء لكل نظام وفكر مخالفين. ولأنه سلب لحق الاجتهاد والإبداع، الشيء الذي يوقف عجلة التطور في علم السياسة وأساليب الحكم، زيادة على كونه يتعارض مع حرية الشعوب وحقها في تقرير مصيرها بنفسها .
أما قول العلماني بأن الفكر الديني لايمكن أن يغطي كل نشاطات المجتمع، لأن “السياسة لايمكن أن تتولاها إلا فئات لها صلاحيات ولها مؤسسات ولها حرية الراي — ” فإن مثل هذا الكلام يفهم منه أن الدين – ويقصد الإسلام – ضد منح الحريات لأفراد ومؤسسات يتولى كل منها وظيفة معينة في إطار تسيير الشأن العام وتمتيعها بالصلاحيات والحريات التي تقتضيها هذه المسؤولية .. والواقع أن هذا الأمر بعيد كل البعد عن الحقيقة، ولا يستند إلى أي برهان أو دليل، ولا يعدو أن يكون مجرد كلام لا يهم إلا القائل به. ومن المؤكد أنه لايوجد في الشريعة الاسلامية ما من شأنه أن يحرم أو يكره أن تختص جماعة من أهل الخبرة بالقيام بوظائف معينة بشكل جماعي أو فردي أو في إطار مؤسساتي، شريطة توفر الكفاءة والنزاهة التي يشدد عليها عدل الإسلام، وشريطة الانضباط للقوانين التي تحدد الاختصاصات والمسؤوليات وطرق المحاسبة والعقوبات الزجرية ومساطر تنفيذ ها. تماما كالتي نجدها في القوانين الوضعية، واليعلم العلماني أن الأصل في المعاملات هو الاباحة، ولا تحريم إلا بدليل شرعي. ولعل الإسلام يعتبر أول من قيد سلوك الانسان بالعديد من الالتزامات الأخلاقية، سواء كانت فعلا أو تركا، بل وحتى اعتقادا أوظنا. وتوعد الغشاشين والظالمين والسارقين والخائنين للأمانات بعقوبات يوم الحساب، فما أحوج المسؤولين إلى الانضباط التلقائي لهذه القيم الرفيعة، ليس خوفا من مراقبة المسؤولين عليهم فقط، وإنما امتثالا لما شرعه الله ورسوله، الذي بعث ليتمم مكارم الأخلاق .
اما بالنسبة لحرية اتخاد القرارات والمبادرات التي يتطلبها تسيير المرافق العامة، فنذكر العلماني بأن الإسلام يجعل من الرأي المستند إلى أساس شرعي، أحد مصادر الشريعة الإسلامية وليس فقط أحد مصادرالقرارت والمراسيم والمذكرات التي يستلزمها تسيير مؤسسات ومرافق الدولة، كما أن الإسلام يفرض قاعدة الشورى احتراما لآراء الجميع وإشراكا لأهل الخبرة واتقاء لزلة الاستبداد .
إنه لمن الغريب أن يتنكر العلمانيون للطابع الشمولي للشريعة الإسلامية رغم كون كل علماء الإسلام ومفكريه الذين اطلعنا على مواقفهم، “بل وحتى المستشرقون” و” الخواجات”، يجمعون على أن للإسلام طابع شمولي، وأنه يشمل كل جوانب الحياة، فهوعقيدة وشريعة،علاقات فردية وعلاقات جماعية، عبادة ومعاملة وسياسة داخلية وخارجية .. وأن هذا الطابع الشمولي للإسلام تؤكده النصوص الشرعية، كما تؤكده تجربة النواة الأولى للدولة الإسلامية التي أسسها الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة بالإضافة إلى تجارب المسلمين واجتهاداتهم في بناء دولة الشريعة وتنظيم علاقاتها مع غيرها من الدول والإمبراطوريات والطوائف. وتكفي الإشارة إلى بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الآتية :
النصوص الشرعية:
القران الكريم :
يقول العلي القدير في كتابه المبين مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم:” ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين” .(5) ومعنى ذلك أن القرآن قد بين للمسلمين كل الأمور المتعلقة بجوانب الحياة بغية هدايتهم إلى سواء السبيل. وكلمة” كل شيء” قطعية الدلالة وهي تعني جميع الأمور، سواء المعروفة لدينا اليوم أو التي قد نعرفها في المستقبل، وسواء كانت سياسية أو عقائدية أو غيرها. كما أن الله سبحانه وتعالى جعل الإيمان الصحيح يشمل الإيمان بكل ما جاء في الذكر الحكيم، وهو سبحانه يحذر من الإيمان ببعض القرآن دون البعض الآخر، ويتوعد من يفعل ذلك بالعذاب ـ وقد يكون الجزء الذي يكفربه الإنسان وينكره هو الأحكام القرآنية المتعلقة بالشأن العام في جانبه السياسي. وهذا ما يستفاد من قوله عز وجل:” أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض، فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب، وما الله بغافل عما تعملون”. ( 6) “وقد سمى الله عز وجل من لم يحكمون بما أنزله كفارا وظالمين وفاسقين، فمن أنكر شرع الله أو لم يطبقه مستهينا به فهو كافر. ومن تهاون في تطبيق شرع الله فلم يطبقه غير منكر له أو مستهين به، فهو ظالم لحكمه بغير ما أنزل الله، أو فاسق أي مجاهر بالمعصية لخروجه عن شرع الله .(7)
والله العليم الحكيم، أمرالمؤمن بتطبيق شريعته كاملة على أرض الواقع، من غير التأثر بالمصلحة الشخصية أو النزوات الفردية أو اتباع هوى النفس. ومن غير أن يبالي بدعوات بعض الفئات التي لا تنسجم مصالحها وطموحاتها الفردية مع الشريعة الإسلامية الأزلية العالمية والتي قد تشكل تكتلات قوية أو مايعرف حاليا باللوبيات ذات التأثير الخطير على القرار السياسي للدول. وكذلك الجماعات ذات التوجه العلماني والمتحالفين معها من حداثيين ويساريين ومنبطحين. وكذلك ضغوطات الدول والمنظمات والمؤسسات الأجنبية والتي تتحكم أحيانا في تصريف أمور الناس السياسية والاقتصادية. ويقول الله سبحانه قي هذا الصدد :” وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك. ” (8) فسبحان أعلم العالمين، وكأن هذه الآيات، تصف الوضع الراهن الذي تكاد تفقد فيه دويلات المسلمين سلطة اتخاذ القرار بسبب انبطاحها لقوى الاستكبار ورغبة في الحصول على رضاها وطمعا في بعض الدولارات التي لا تسمن ولا تغني من جوع. وكل هذا يحدث في دول مسلمة رغم تحذيرالعلي القديرلمثل هذا السلوك بقوله سبحانه :” ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لم يغنوا من الله شيئا. ” (9 )
يـتـبع