* سعيد ودغيري حسني
كانت الحياة يوماً قصيدة تُرتَّل على إيقاع الطبيعة كل بيت فيها يُنشد بأصوات العصافير وكل شطر يكتمل بأنفاس الأرض العذبة .. كنا نأكل ما تُنبت الأرض بلا مساحيق تخفي نكهته، ونشرب ماءً زلالاً كأنه قادم من قلب السماء .. كان الجيران أقرب من ظلالنا، وكانت الأحاديث دفئاً يتسلل إلى الأرواح، تُروى ببطء كأن الوقت كان واسعاً كحضن أم .. كان المذياع يهمس في كل بيت: “هنا القاهرة .. هنا الرباط .. هنا لندن”، وصوت الأثير يملأ الفراغ بحكايات عن عالم مترامي الأطراف
عندما ظهر التلفزيون كان معجزة الزمن، نجتمع حوله وكأنه نافذة سحرية على عالم بعيد .. الهاتف بأرقامه الدائرية كان أعجوبة أخرى صوته الخافت كان كافياً ليملأ القلوب بالدهشة .. حتى السفر، كان رحلة لاكتشاف الجمال .. القطارات العادية والسيارات البسيطة تحمل أرواحنا ببطء لتتنفس الطبيعة ولتتأمل الجبال والأنهار والغابات الممتدة بلا حواجز
لكن الزمن تغيّر .. التكنولوجيا جاءت كريح عاتية اقتلعت جذور البساطة .. صارت الوجبات سريعة والمياه معبأة والأحاديث مقتضبة عبر شاشات باردة .. المسافات تقاربت بين المدن .. لكنها، توسعت بين القلوب .. اليوم كل شيء يبدو في متناول اليد إلا دفء الماضي .. صارت الأرض تدور بسرعة وكل منا يجري خلف ظله في دائرة لا نهاية لها
التكنولوجيا منحتنا معجزات لم يحلم بها الأولون .. الذكاء الاصطناعي الذي يحاكي العقول والطائرات التي تخترق السحاب والروبوتات التي تزاحم الإنسان .. لكنها، في المقابل سرقت منا شيئاً ثميناً .. فقدنا لحظة التأمل .. فقدنا دهشة البدايات وصار الإنسان يطارد المستقبل بلا هوادة كأنه يحاول اللحاق بشيء يهرب منه
هل نحن على أعتاب عالم أجمل .. أم، أن هذا السباق بلا نهاية ..؟
هل سنستطيع الحفاظ على إنسانيتنا وسط زحام الآلات ..؟
هل ستبقى رائحة الفلفل المشوي في زقاق الطفولة تلامس الذاكرة .. أم، أنها ستُطمس تحت عجلات التغيير ..؟
عالم الغد يحمل وعوداً براقة .. لكنه، يضعنا أمام تساؤلات مصيرية
هل سيظل الإنسان مركز الكون .. أم، سيصبح جزءاً من نظام أكبر تديره الآلات ..؟
هل ستكون القلوب قادرة على الحفاظ على دفئها وسط برودة الأسلاك والمعدن ..؟
ربما يكمن الحل في العودة قليلاً إلى جذورنا أن نأخذ من التكنولوجيا ما يخدمنا، ونترك ما يسلبنا أرواحنا .. أن نجد التوازن بين تسارع المستقبل وبطء الأمس .. أن نحيا في الغد بقلوب تُنشد حنيناً للماضي وأعين تتطلع بثقة إلى المستقبل
الحياة ليست مجرد ابتكار، بل هي دفء اللقاء وجمال البساطة، وعمق الأحلام .. وما زال الإنسان بقلبه وروحه أعظم معجزة على الإطلاق