الدكتور الصديق بزاوي

تسرب العلمانية إلى المجتمعات الإسلامية :

من أخطر الأمراض الثقافية والسياسية التي أصابت امتنا الإسلامية، إعجاب شعوبها اللامتناهي بالحضارة الغربية، إلى درجة أن أصبحت تعتبر كل ما يصدر من الغرب هو المثل الأعلى الذي لا يأتيه الباطل. وأن ما يظهر من الأفكار في باريس أو لندن تلتقطه مباشرة أقلام مثقفينا وتتهافت عليه صحفنا، من غير أن تكلف نفسها عناء تمحصه وفحصه لأخذ الصالح وترك الطالح منه. وقد بلغت حدة هذا التقليد الأعمى درجة استشهاد بعض (أشباه المثقفين) بكل ما يصدر من الغرب من سلوكات، باعتباره النموذج للصواب والخطأ، وذلك رغم ابتعاد هذا النهج كل البعد عن الموضوعية المطلوبة في كل نقاش فكري أو إنجاز معرفي. و للاستدلال على نجاعة النظام العلماني و صلاحيته، يستدل هؤلاء المقلدون بكون الأوروبيين يعتمدونه. كيف لا وهم القدوة والنموذج الذي يجب الاقتداء به من طرف كل حداثي، بل تقديسه بدل تقديس الوحي الإلهي .
إن المنبهرين بالحضارة الغربية – حلوها و مرها- أصبحوا يجهرون بخطابهم العلماني ويدافعون عنه بكل قواهم عن وعي أوعن غير وعي، ضاربين عرض الحائط قيم مجتمعاتهم. وغير مبالين بما يمكن أن يحدثه ذلك من تدمر واستياء واستفزاز لمشاعر المؤمنين المتشبثين بعقيدتهم . ناهيك عن مفارقة للشريعة والاستخفاف بمبادئها والتشكيك حول قدرتها على مسايرة العصر وإيجاد حلول لمشاكل الأمة بمختلف أنواعها. وبما أنه شتان مابين ظروف التجمعات الإسلامية وظروف المجتمعات الأوروبية المسيحية، ومابين فهم المسلمين لشريعتهم و تفعيلهم لقواعدها الكلية على الساحة السياسية. وبين فهم المسيحيين لدينهم وتطبيقات الكنيسة المشوهة لها في أوروبا، فلا مجال إذن لإسقاط فكر العلمانية على الواقع الإسلامي وفرضه عليه. وإذا كانت العلمانية في أوروبا ثورة على الكنيسة كمؤسسة استبدادية منفعية، فإنها في الواقع الإسلامي ثورة على الدين ومعاداة لقيمه العالمية. وإذا كانت تعني حرية الاعتقاد وحرية التعبير بمختلف أشكاله، فهي هنا أضحت نظاما من العصبية والمضايقة والضغط والإكراه العقائدي والسياسي. العلمانية هناك أنتجت مجتمعا وحضارة، واستعانت في ذلك بالدين نفسه، والعلمانية هنا أنتجت التبعية و الانحطاط وجعلت من التهجم على الدين تعويضا عن الإخفاق والفشل .
إن “عبارة “فصل الدين عن الدولة”،عبارة غير مستساغة إطلاقا في مجتمع إسلامي، لأنه لا معنى في الإسلام لإقامة التعارض بين الدين والدولة .. إن هذا التعارض لا يكون له معنى إلا حيث يتولى أمور الدين هيئة منظمة تدعي لنفسها الحق في ممارسة سلطة روحية على الناس ـ في مقابل سلطة زمنية تمارسها الهيئة السياسية ( الدولة.) ..” وأكيد أن تربة الأمة الإسلامية لم تعرف قط مثل هذه الأوضاع التي عرفتها المجتمعات الأوروبية، نظرا لطبيعة الإسلام المغايرة وخصائص علماء المسلمين وفقهائه التي تميزت كثيرا عن خصائص رجال الكنيسة. وبما أنه شتان ما بين ظروف الأمة الإسلامية وظروف أوروبا المسيحية، فلا مجال إذن لإسقاط فكر العلمانية عن الواقع الإسلامي وفرضه عليه .. لكن ، رغم هذه الحقائق الساطعة لازال بعض (أشباه العلمانين) يصرون على المماثلة وأحيانا المطابقة بين التجربتين الغربية والإسلامية، بدعوى وحدة العقل والفكر البشري ومنطق التغيير والنهضة والإصلاح، مع القفز على فوارق واختلافات وخصوصيات لا يمكن التنكر لها .. وهؤلاء، كما أشرنا في ما سبق، يتكونون خاصة من ذوي الثقافة الأحادية، الذين تتلمذوا على يد أساتذة أجانب في أوربا أو في البعثات الأجنبية المتواجدة ببلدانهم والذين يعتمدون على مراجع للمستشرقين، وأن جل هؤلاء قد تم تشكيلهم وفق رؤية معينة وخطة مدروسة. ومن بين هذه الخطط المرسومة للأمة الإسلامية إلغاء عملية التواصل الفكري والثقافي بين الأجيال السالفة والحاضرة، والعمل على فصل الحاضر عن الميراث الحضاري الغني، وذلك بالتقليل من أهميته والحكم عليه جملة، بانتهاء مدة صلاحيته، كما لو كان منتوجا استهلاكيا مؤقتا. ولا يقف مهندسو هذه الخطط عند هذا الحد، بل أنهم يعملون على انتقاء المواضيع التي تهز ثقة المسلم بعقيدته وشريعته والاقتصار على إبراز بعض الهفوات التي تحدث في الفقه الإسلامي وفكره، والتي قد تحدث في جميع الثقافات وفي تراث كل شعب من الشعوب. وكذلك تضخيم هذه الهفوات وتجنيد جهات إعلامية قادرة على التأثير في بعض الشرائح الاجتماعية (كمثقفي المقاهي) الذين يعتمدون على الصحف والجرائد وبعض الفضائيات لتكوين مواقفهم بالتقاطها جاهزة مكتملة لايشك أحد في صحتها، لا لشيء إلا لكونها صدرت من أمريكي أو فرنسي أو مسلم (عقلاني حداثي) .. ومن بين الخطط الموجهة ضد الإسلام نشير كذلك إلى تشجيع اللغات العامية قصد محاصرة اللغة العربية الفصحى حتى تصبح واحدة من اللغات القديمة والميتة. ومجرد ألفاظ تعبدية تفقد معانيها وحيويتها. كما حدث للغة اللاتينية التي شكلت عائقا في وجه المسيحيين يحول بينهم وبين مصادر ديانتهم الأصلية. ومع الأسف فإن هذه الظاهرة بدأت تتفشى لدى كثير من المتعصرنين الذين يشغلون مناصب مؤثرة في صنع القرار. ولعلها في مغرب العالم الإسلامي أكثر وضوحا. ومما يشجع على هذه المحاولات الماكرة، غياب وعي الأمة الإسلامية بهذه المخاطر وتخاذلها وعدم مواجهتها لهذا التصنيع الفكري. وربما أيضا لأنها لا تتحكم في القرارات التي تخصها ولا تشارك في تقرير مصيرها بوجه من الوجوه . ونتمنى صادقين أن يشكل هذا الوضع المتردي وهذه المؤامرات، إحدى المنبهات والاستفزازات الحضارية التي تساهم في نهضة الأمة الإسلامية مجتمعة وموحدة. “والله خير الماكرين.”
ولا نبالغ إذا أكدنا أن العلمانية لن يكون لها موضع في العالم الإسلامي. وإلى حدود هذه الفترة يوجد نظام علماني في دولة مسلمة وحيدة، وهي تركيا والذي تم فرضه بالحديد والنار من طرف “كمال أتاتورك” سنة 1926. وأن هذا النموذج أخذ يهتز بعد صعود (حزب العدالة والتنمية) ذي التوجه الإسلامي. وأن هذا الوضع السياسي سوف ينعكس على مكانة العلمانية في سياسات بعض الزعماء (الهجينة) ومواقف بعض المفكرين في البلاد الإسلامية المتذبذبة، الذين ينظرون إلى الإسلام نظرة الأوروبيين إلى الديانة المسيحية ويعتقدون أنه مجرد علاقة روحية بين الإنسان وربه. ولا علاقة به بنظام الدولة وشؤونها السياسية والاقتصاد، .بل وحتى الاجتماعية. لآن مثل هذه الأمور تحكمها، في نظرهم، تجارب الفكر البشري الخاضع للتطور الزماني والمكاني، دون غيرها. وهؤلاء بدأ أمرهم بالدعوة إلى تحييد الإسلام عن واقع الحياة ثم الدعوة إلى العلمانية بشكل مباشر. وعندما اكتشف مدلول العلمانية وتم رفضه من طرف السواد الأعظم من الأمة. كان لابد من البحث عن بديل يكون أخف وقعا على المسلمين. فتم طرح مصطلح العقلنة والعقلانية. وكيف لا يقبل المسلمون هذه المصطلحات. والإسلام دين العقل والتدبر والتفكير .. وها نحن اليوم نسمع بفصل الدين عن السياسة وعدم تسييسه، كما صرح بذلك المسلم العلماني (أردوكان) بقوله: “أنا مسلم لكن الدولة (تركيا) علمانية.” ويعلم الله ما سيسوقه الغرب في الأسواق الإسلامية من مصطلحات، بواسطة هؤلاء في المستقبل. وأكيد أن هذه النخبة لا يمكن أن تنجح أمام قوة الدفاع الذاتية الإسلامية. ولأنها في الحقيقة “تحارب نفسها بنفسها .. إن الشعب المسكين سيقول كلمته ولو كانت هذه النخبة ذات إمكانات مالية وإعلامية كبيرة ومدعومة من طرف خصوم الشعوب.”(4)

يتـبع