مجادلة علمانيين – تــابع
الدكتور / الصديق بزاوي
الأمة عانتت و تعاني من صراعات داخلية بسبب إسلاميتها
أشرنا سابقا إلى أن خصوم الإسلام يستغلون التعددية المذهبية التي يتميز بها الفقه الإسلامي والتي تسمح بها الشريعة نفسها، لجعلها السبب الرئيسي إن لم يكن الوحيد، في الصراعات التي تعاني منها الأمة الإسلامية .. وإذا كنا لانملك إلا الإقرار بكون هذه التعددية قد تساهم بشكل أو بآخر، في هذه الخلافات التي قد تتحول بالفعل إلى صراعات داخلية، غير أن الموضوعية التي يجب الالتزام بها في هذه المجادلة تقتضي الاعتراف بأن ما تعيشه الأمة من صراعات داخلية ترجع أسبابه إلى عوامل عدة تتمثل على الخصوص فيما يلي :
إن الأمة الإسلامية أبتليت بالاستعمار الأوربي الذي سخر كل الوسائل المتاحة لتفتيتها إلى كيانات ضعيفة بعد أن كانت تشكل كيانا سياسيا موحدا في عهد الخلافة العثمانية وما قبلها .. وقد تم مشروع التفتيت في إطار ما يعرف “بمعاهدة سايس بيكو” .. وقد نجح هذا المشروع في زرع بذور التفرقة بين المسلمين، باستعمال الوسائل الثقافية والمادية والسياسية .. وبعد استقلال الأقطار الإسلامية السياسي، وجدت هذه الأخيرة نفسها في مفترق الطرق، لغياب تصور مشاريع واضحة مستقبلية، ولتنوع الاتجاهات الفكرية والسياسية والتي ظلت نائمة خلال الفترة الاستعمارية، لكون الحركات الوطنية آنذاك كانت قد تكتلت لمواجهة المستعمر وتناست أو أجلت خلافاتها إلى ما بعد الاستقلال، خاصة أنها كانت تحمل في باطنها تناقضات إيديولوجية وفكرية .. ومن بين تلك التناقضات على الخصوص: الفكر الأصيل المتشبث بالعقيدة الإسلامية، والفكر (الحديث) المنبهر أصحابه بالغرب والمصممون على اتباع آثاره جملة وتفصيلا في بناء الدولة الجديدة العصرية .. وقد كان من الطبيعي أن تطفو هذه التناقضات على السطح بعد فترة زمنية، شكلت الهدوء الذي يسبق العاصفة، ولاتخفى على كل باحث نزيه أهمية التجزئة السياسية ودورها في خلق صراعات مذهبية داخل الأمة الواحدة .. ومن العوامل الأخرى التي تتسبب في النزاعات التي تعرفها الأمة في الحاضر، نشير أيضا إلى تدخل الاستعمار، المخفي والمكشوف، والذي تسخر له أموال طائلة تصرف على شكل قروض تفضيلية لإصلاح منظومة التعليم ونشر ثقافة حقوق الإنسان مثلا، ومساعدات الجمعيات وتمويل مؤتمرات وندوات ومهرجانات محددة أهدافها بشكل يخدم مصالح الطرف الممول الذي يستغل فقر جل الأقطار المستهدفة، وكذلك ترسيخ ارتباط اقتصادياتها بالأنظمة المهيمنة وجعلها تابعة لها ودائرة في فلكها، وتسويق مفاهيم مغلوطة لحقوق الإنسان وحقوق المرأة والتعايش بين الأديان .. وقد ساهمت هذه الحرب المفاهيمية والثقافية والإعلامية في تشتيت فكر المسلمين وخلق تربة صالحة لاستنبات بذور الصراع الطائفي والعرقي وتغذيته، ورغم وجود هذه العوامل المرتبطة بالخارج، فمن الواجب أن نعترف بوجود عوامل داخلية قد تكون أهم من سابقتها، ومنها خاصة انتشار الأمية وتدني مستويات المعرفة، وغياب ثقافة تدبير الاختلاف، و فهم الإسلام بشكل سطحي واختزاله في كونه مجرد علاقة روحية بين المؤمن وخالقه لا علاقة له بالواقع المعاش وبالشأن العام، لكونه مسألة فردية تتعلق بالعقل البشري المستقل عن كل عقيدة دينية .. ومثل هذه العوامل تعتبر مسؤولية جماعية يتقاسمها كل من المجتمع المدني والعلماء وكافة المسؤولين كل في موقعه، وليست نتيجة اعتماد المرجعية الإسلامية كما يدعي العلمانيون.
إن موقف الإسلام من الاختلاف موقف يتسم بالتوازن، فهو من جهة يدعو إلى الاجتهاد و إعمال العقل ويحث على التفكير ويقر حرية الاعتقاد، ويجعل من اختلاف الأمة رحمة بالعباد .. وفي نفيس الوقت، يضع إطارا يحدد به مجال هذا الاختلاف وحدوده، بحيث لا يمكنه أن يتعارض مع القواعد الأصلية الكلية والمحكمة التي تشكل “أم الكتاب”، أو ما يسمى بالثوابت، وبتعبير آخر، فإن الإسلام يحقق ما يعرف بالتعددية، وهي أرقى ما توصلت إليه الثقافة السياسية اليوم، ولإثراء هذا الاختلاف المرغوب فيه، نلاحظ أن الشريعة خالية من أي مانع يمنع من الاستفادة من جميع الأفكار والنظريات التي يتوصل إليها الإنسان، مهما كانت عقيدته .. وهذا الأمر من شأنه أن يشجع المجتهدين على البحث لإغناء الفقه الإسلامي فيشتد الاختلاف المحمود .