قصة قصيرة / تماثيل تلتهم براعماً
“سلمى تروى قصتها بعد اغتصابها “
إبراهيم أمين مؤمن
أنا سلمى …
وجدني رجل شحّاذ على باب مسجد أصرخ من الجوع والعطش
فذهب بى إلى ملجأٍ وتركنى مودعًا دامعاً .
قال لى مدير الملجأ الذي أعيش فيه نقلاً عن الشحّاذ :
خذْ هذا المولود يا “بيه”إرعه واعتنِ به، فإني رجل لا أكاد أحمل نفسي
فأني أجوع أكثر مما أشبع
وأتعرى أكثر مما أتكسي
ولا أبيت إلا على جوانب الطرقات
وها أنتَ ترى عاهتي .
وولّى بوجهٍ ممتقع
ولّى يغمغم بامتعاض.
***************
نشأتُ في الملجأ
الملجأ أرضه سلاسل في الأقدام
وسقفه أغلال في الأعناق
وهوائه يحبس أنفاسي كأنما أصّعد في السماء.
وما كتم أنفاسي واختلجتْ فيه جوارحي وتململتْ فيه روحي أكثر من تردد سؤال يجلدني في كل ذرة من كياني كله
لماذا رموني اهلى ..؟
وتاتيني الإجابة بدمع وصراخ حتى اسقط متضعضة كأنّ صرعني شيطان.
وأتساءل:
هل أنا من طين .. ؟
هل خُلقتُ من أب وأم .. أم نزلتُ من الفضاء كأي صخر لمْ يولد ..؟
يجب أن تكون الإجابة على كل سؤالاتي أن
أُوجد كياني الذي يمثل فخري وفخر مجتمعي الذي آواني
أكسر رغام اليأس والتشاؤم وأُعلي راية الأمل والتفاؤل.
لابد أن يكون اسمى أنا هو “بسمة وأمل وطموح وانتصار.
وحضارة تنبعث من نفسي إلى مجتمعي مزدهرة .. هذا هو اسمي”
عشتُ أحيا بخلقٍ واسع
وأتعلم العلم النافع
وأدعو من معي أن غدهن زواج وإنجاب في وطن يحتضنهنّ.
كما احتضنهن في هذا الملجأ .
***************
رشدتُ رشد أُولى الألباب وأنا في العشري
ن.
أُوتيتُ الرشدُ صبية .. فرغم الضربات المتتابعة إلا إن راية الانتصار كانتْ غالبة عليّة.
وخرجتُ من الملجأ إلى المجتمع .
فضاء فسيح به الحرية والأمل ومرتع الطموح والنجاح والانطلاق .
أريد الأسرة الطيبة التي تمثل لبنة أبْنيها في صرح حضارتنا المتهالكة أو بذرة أنثرها في أرضنا البور القاحلة.
أُريد إنجاب أولاداً يكونوا براعمًا صالحين .
أرعاهم وترعاهم رعاتهم من حكام ومسئولين.
وقابلتُ الحلم .
ثروت.
تبدو عليه وسامة الخلق والحكمة ورجاحة العقل وأصل الدين.
تبادلنا الحديث بعد لقاءات عديدة.
فكان نِعمَ الإنسان والحبيب والأهل وقال لي إني كذلك له.
وجاءتْ اللحظة الفارقة وقلتُ له
أتعرف مَن أنا .. ؟
فقال لي أنتِ قلبي الذي حيا بعد الموات
و عمري الذي أتى بعد الفوات
ودمي الذي جرى بعد الثبات
ومائي الذي أنهرَ بعد النفاد
وسماء أستظل بها
وأرض تقلني من الانهيار
وفضاء أسبح فيه طائراً كفراشة .. أستنشق الرحيق من الأزهار .
وعمري الذي مضى ومستقبلي الآت .
فأدهشتني عجلته ولم يمهلنِِِِ الردّ وتركني ثم عاد ليقُل
مفاجأة سلمى مفاجأة حبيبتي
أبي وأمي وافقا على الزواج .
وأُعلمكِ أن أبى من الأثرياء ورجال الأعمال المشهورين.
واسمه ثروة
فهلّا قابلتُ والداكِ
أُريد أن أرى قبس هذا النور الرباني الأخّاذ.
أين هما ..؟
فانهمرتْ دموعي ورويتُ له قصتي.
فامتعض وقطّبَ جبينه
ورفع رأسه مستنكفاً
وفغر فاه وأطلق قذيفته العمياء الحمقاء.
قذيفة الغاب.
آفة القرن وكل القرون
هي التقاليد وهي العنصرية
التي يتوارثها الأبناء عن أجدادهم
التقاليد التي جسّدناها تماثيلً في أرواحنا فعبدناها .
وكنتُ أنا سلمى قُربان من القرابين التي ترضى تماثيلهم.
وياويل أمثالي من هؤلاء المكفوفي البصر والبصيرة.
وقذيفته قوله
” آه يا بنت الملاجئ ياحمقاء يا أهل السوابق أمضي إلى بنات الشوارع
أنا أنا أنا وأنتِ أنتِ أنتِ أنا ابن الناس وأنتِ بنت الملاجئ .
إني من عائلات أصل وثروات .. وأنتِ ما وجدتيهم إلا عدماً يا بنت العدم والزواني”
***************
عدوتُ من أمامه صارخة باكية أرى من حولي يحبون
الجمال وإنْ كان زائفًا
والمظاهر ولو كانتْ كاذبة
والمناصب ولو كانتْ طاغية
والعائلات ولو كانوا جبابرة
والأبنية العالية ولو كانتْ هاوية .
كانتْ حياتهم كلها “هذا “
تعبد كل هذا فأُصبح “هذا” أصناما تُعبد وتحكم وتشرّع وتحدد مصائرهم.
ألتهمتني تماثلهم.
وستظلُّ تلتهم إن لمْ تستيقظ ضمائرنا.
أو تستيقظ ضمائر رُعاتنا ومسئولينا.
نسوا أن الله الذي خلق سلمى .. هو من خلق الأميرة.
مازلتُ أُعدو عدو الفارّين وكأن أشباح تعدو خلفي
لا أرى أمامي إلا أشباح الإنسانيّة
وظلام النفوس الساديّة
وضحكات السخرية ذات الأصوات الساخرة الفاترة المتأفّفة.
وفجأة وجدتُ نفسي بين ذئاب بشرية.
فاغتصبونا واحداً واحداً ثُمّ ضربوني وأطلقوني ولا غيّاث يُغيث.
أطلقوني بجسد عارٍ وملابس مهترئة .
وما جرأهم إلا إني لم يكنْ لي درعاً أو حمىً أو ظهراً
ظللتُ أسير زاحفةً منَ الإعياء حتى بلغتُ الملجأ
قابلني المدير فزعاً وقال
مالك يا سلمى ..؟
فأجبته قائلة ” ألان علمتًُ لِمَ رماني أهلي “
وأشرتُ له أن يحملني بالداخل
إلى حجرتي القديمة.
إمضاء : سلمى بنت الملاجئ